نبيل عمر
لا أعرف مخرجا سينمائيا ظلمه أهل الفن والنقاد كما ظلموا «كمال الشيخ»، مرت قبل أيام مئة وثلاث سنوات على مولده، ولم أقرأ عنه حرفا واحدا، كأنه عَبَرَ حياة المصريين خيالا لم يمتعهم ويعلمهم، وحين أقارن، على سبيل المثال، بين السنما المصرية وبين السينما الهندية نجد أننا أفضل فنيا وننتج ما يقرب من 100 فيلم سنويا، ولكننا تراجعنا إلى عشرين فيلما وقد تزيد قليلا، بينما نمت السينما الهندية بأكثر من ألف فيلم فى العام يذاع بعضها عالميا.
ولو كنا جادين ونحسن التفكير العلمي المنظم لحولنا السينما المصرية إلى مصدر دخل بالعملات الصعبة كما «الاهرامات» والمنتجعات السياحية وقناة السويس ولو بدرجة أقل، فهى غنية بالمواهب الفردية إخراجا وتمثيلا ومونتاجا وتصويرا..الخ، مواهب لا تقل بأى حال عن مثيلتها فى السينما العالمية، وقد تتفوق عليها، ولها تراث من أفلام عظيمة تناطح كلاسيكات هوليود، هل يقل «الأرض» ليوسف شاهين عن «ذهب مع الريح» للمخرج فيكتور فيلمنج والحاصل على ثمانى جوائز أوسكار، هل يقل «شباب امرأة» لصلاح ابوسيف عن «الخريج» لـ«مايك نيكولس» أوسكار أحسن مخرج عام 1968، هل يقل «شيئ من الخوف» لـ«حسين كمال» عن «العراب 2» لـ فرانسيس كوبولا، هل يقل «أريد حلا» عن «كرامر ضد كرامر»، بل لنا أفلام عن روايات عالمية كانت أفضل من نسختها الأجنبية مثل «نهر الحب» لـ«عزالدين ذو الفقار» عن رواية أنا كارنينا للروائى الروسى ليو تولستوى، وهو أعلى فنيا من النسختين الأمريكية والروسية.
صحيح أيضا أنها أنتجت أفلاما تافهة وسخيفة ومفسدة كحال كل سينمات الدنيا، ويمكن أن أعدد مائة أو مئتى فيلم أمريكى وربما أكثر من هذا النوع الردىء.
نعود إلى المخرج كمال الشيخ، وله 35 فيلما، اختار النقاد منها ثمانية فقط فى قائمة أحسن مائة فيلم فى تاريخ السينما، هى اللص والكلاب، ميرامار، حياة أو موت، على من نطلق الرصاص، غروب وشروق، الصعود إلى الهاوية، المنزل رقم 13، الرجل الذى فقد ظله، وأتصور أن ثمة أربعة أفلام أخرى يمكن أن تنضم إلى القائمة بمنتهى السهولة وهي: الخائنة، والليلة الأخيرة، ولن اعترف، وشىء فى صدري!
تخيلوا أن أول أفلامه هو المنزل رقم 13، فى عام 1952، كان جديدا فى فكرته وتكنيكه السينمائى، عن قاتل ارتكب جريمته تحت التنويم المغناطيسى من طبيبه النفسى، فكرة علمية جديدة على مجتمع أكثر من 80% من أهله أميون لا يقرأون ولا يكتبون، واستطاع أن يصل بتفاصيل فكرته الصعبة التى كتبها بنفسه بمساعدة سيناريست موهوب هو على الزرقانى، إلى أبسط متفرج فى قاعة سينما درجة ثالثة فى حى شعبى، ونفذها بحرفية عالية وإثارة لا تتوقف، بل يمكن القول إنه حبس أنفاس متفرجيه حتى اللحظات الأخيرة، وهو ما صنعه مرة ثانية بعد عامين فى فيلم حياة أو موت، كان فكرة جديدة هو الذى كتبها أيضا، عن خطأ غير مقصود من صيدلى فى تركيب دواء يمكن أن يميت إنسانا عاديا مجهولا، إنسان بسيط يمر هو وعائلته بظروف مالية قاسية قبل العيد، ولعب كمال الشيخ بالكاميرا فى شوارع القاهرة بمهارة وحنكة لأكثر من نصف وقت الفيلم، والبنت تحمل الدواء السموم لأبيها وهى تتحرك من شارع إلى شارع دون أن يفقد الحدث شبه الثابت إيقاعه ولو لحظة، إذ يجدد جريانه وسخونته، بتفاصيل إنسانية دقيقة وكادرات فى غاية الأناقة والمتعة البصرية.
يغيب كمال الشيخ بضع سنوات عن عالمه الأثير وهو مزج الجريمة بالحياة الإنسانية لأبطاله فى نمنمات واقعية للغاية، ويخرج أفلاما جيدة شبيهة بما هو سائد فى السوق، ثم يعود إلى عالمه الإنسانى الغامض بفيلم «لن اعترف»، الذى يجد أبطاله أنفسهم بين اختيارات فى غاية الصعوبة، فتضع الزوجة حياتها فى حبل المشنقة نيابة عن زوجها متصورة أنه «القاتل الحقيقي»، والفيلم مقتبس بتصرف كبير عن فيلم أمريكى «الحافة العارية» بطولة ديبورا كير وجارى كوبر وإخراج مايكل أندرسون، ولا يمكن أن تشعر بهذا الاقتباس من فرط شطارة التمصير.
ويختتم كمال الشيخ مرحلة الغموض الجنائى الإنسانى بفيلم أكثر إثارة هو «الليلة الأخيرة» 1963، عن امرأة تستيقظ ذات صباح لتجد نفسها داخل عالم غريب عليها، وجه يتجاوز الأربعين وزوج وابنة على «وش زواج» وبيت فى حى المعادى بالقاهرة وهى فتاة فى العشرين من الإسكندرية، واستطاع كمال الشيخ أن ينقل متفرجيه إلى مأزق البطلة، حتى صاروا حيارى مثلها، هل يصدقون ما يحيط بها أم يصدقون ما تؤمن به داخل نفسها، ويظلون على هذه الحالة حتى الدقائق الخمس الأخيرة من الفيلم، فى ظل مفاجآت متلاحقة، وينتهى الفيلم على غير توقعاتهم، بأن تقبل البطلة «عالمها» الجديد، لأن العالم القديم انقضى حين فقدت ذاكرتها قبل عرسها بأيام ولن تستطيع إعادته ومستحيل أن تبدأ من جديد!
هذا بعض من ملامح كمال الشيخ، دون أن نتحدث عن «الخائنة» وجماله السينمائى فى التقطيع والحكى المصور، أو على من نطلق الرصاص أو الهارب أو بئر الحرمان وغيره، وعن إدارة ممثليه بكفاءة تستخرج أفضل أداء ممكن.
لم ينل كمال الشيخ أضواء يوسف شاهين وصلاح أبوسيف وحسن الإمام وعز الدين ذو الفقار وهم من جيله، لميله إلى الهدوء والبعد عن الصخب.
اقرأ للكاتب:
ليس مجرد قلة أدب!
نبيل عمر يكتب .. لا يا دكتور طارق
لغز يناير وحتمية الإخوان الكاذبة!
التعليقات متوقفه