القصة القصيرة واهتمامها بقضايا الإنسان
المجموعة القصصية "أحمر شفاه " للأديبة د. أمل درويش أنموذجا
بقلم الأديب والناقد / خالد الحديدي
ارتفعت وتيرة نشر المبدعات المصريات لإبداعهنّ على تنوّع كتاباتهنّ وأجناسها. وقد رافق هذا التّراكم وعي جديد تطوّرت إليه القصة القصيرة وأصبحت تعالج هموم الإنسان وقضاياه بعد أن تخلّصت من الموضوعات التي تعتمد أساسا الخيال وعدلت عن التهويمات والتّحليق بعيدا عن الواقع، بل أثبتت الكثير من الأعمال النّسائيّة أنّ القصّة تتطلّب موهبة بعينها يكون الفكر فيها واسعا يلمّ بأحوال النّاس ويعرف معادن نفوسهم؛ ومن ضمن هذه القضايا .. قضايا المرأة ومشاكلها التي ما اِنفكت تتّخذ القاصّات من القلم أداة لطرح هواجسهن والتّعبير عمّا يختلج في نفوسهن.
وبعيدا عن التّأريخ التّقليديّ للقصّة المصرية والعربية وبداياتها ونشأتها، وقد بات معروفا ومحفوظا عن ظهر قلب – وبعيدا عن المقولات الجاهزة التي يجري إطلاقها حول هذا الفنّ أو ذاك، وبعيدا عن النّقد المجامل أو المتحامل، وبعيدا عن حضور القصّة في المزاج القرائيّ للنّاس وقدرتها على التّأثير في متلقّيها بهذا الشّكل أو غيره، وقريبا من روح القصّ وجماليّاته التي تحمل الرّوح إلى نفسها وتضع القارئ أمام مراياه المتعدّدة ليرى الصّورة كما ينبغي للقاصّ أن يراها -يمكن القول إنّ القصّة القصيرة في مصر والوطن العربي تمتلك الكثير من السّمات والخصائص الفنيّة والمضمونيّة بالقدر الذي تمتلك فيه إشكاليّاتها وأسئلتها واِنشغالاتها، وتمتلك حضورا يصعب إنكاره في المشهد الثّقافيّ؛ وهو حضور يرى بعض النّقاد والعارفين بالشّأن الثّقافيّ أنّه الأكثر بروزا ونموّا وتطوّرا بين صنوف الإبداع الأدبيّ الأخرى مثل الشّعر والرّواية .
وإذا كانت القصّة القصيرة في مصر والوطن العربي شقّت طريقها لتفتَح من مضامينها وتلتصق بالواقع والمعيش وتتّصل أشدّ الاِتّصال بمظاهر التّغيير الاِجتماعيّ؛ بذلك أصبحت القصّة القصيرة لسان حال كتّابها يعبّرون فيها عمّا يحدث حولهم وعن أشواقهم وأحلامهم وخيباتهم ورؤاهم المختلفة .
والحقّ أنّ القصّة القصيرة المصرية والعربية لم تنفصل يوما عن مجتمعها ولم تزايل قضايا ملايين الجماهير، بل كانت منذ فجرها شديدة الاِرتباط بالواقع والإنسان معا.
ومن بين كلّ هذه الموضوعات والاِتّجاهات، سنهتمّ بالاِتّجاه الاِجتماعيّ في القصّة القصيرة المصرية والعربية وخصوصا موضوع المرأة الذي اِستأثر باِهتمام العديد من القاصّين والقاصّات في الأدب المصري والعربي الحديث والمعاصر، وذلك بالنّظر إلى خطورته، إذ عولج من زوايا مختلفة وعبر محطات متعدّدة؛ فقد تطرّقت القصّة القصيرة المصرية والعربية إلى إثارة قضايا الحجاب وخروج المرأة إلى العمل واِختلاطها بالرّجال ونظرة المجتمع إليها. كما تناولت القصّة موضوع الأسرة انطلاقا من بدايتها (الزّواج) مرورا برصد العلاقات بين الزّوجين وبين الأبناء، وانتهاء إلى ما قد تؤول إليه رابطة الزّواج من اِنفصام واِنحلال. ولم يفت القاصّين المصريين التّعريج على قضايا أخرى ذات صلة بموضوع المرأة والأسرة كالعنوسة والخيانة وإهمال الأسرة وتفكّكها وتشرّد الأطفال وتعدّد الزّوجات ِالخ… وتتميّز الكتابة النّسائيّة القصصيّة القصيرة بالمقارنة مع الكتابة الذّكوريّة بمجموعة من السّمات والخصائص. ومن بين هذه الممّيزات في المستوى الدّلاليّ، طرح جدليّة الذّكورة والأنوثة عبر محوري الصّراع والتّعايش، والتّركيز على البيت والتّربية برصد التّناقضات المتفاقمة، وتبيان التّفاعل السّيكو-اِجتماعيّ والقيميّ والإنسانيّ والاِنطلاق من الذّات الشّعوريّة واللاّشعوريّة في التّعامل مع الظّواهر الحياتيّة بغية تحقيق التّواصل القيميّ والاجتماعيّ والإنسانيّ والتّفاعل مع منطق الأشياء، والاِرتكاز إلى أعماق الدّاخل الوجدانيّ، والتّركيز على المكبوتات الواعية واللاّواعية في اِستعراض المشاكل الدّاخليّة والذّاتيّة، والاِهتمام بكلّ تناقضاتها الإنسانيّة.
هذا وقد سارت الكتابة النّسائيّة في مصر شوطا كبيرا في مجال القصّة القصيرة. وان الإبداع النّسائيّ في هذا المجال قد فرض نفسه بإلحاح وأصبح ظاهرة أدبيّة لافتة للاِنتباه
وحتّى لا يبقى هذا الكلام فضفاضا وعامّا، اِخترنا لدراستنا المجموعة القصصية هي “أحمر شفاه” للكاتبة أمل درويش؛ وهي مصرية وتكتب القصّة، والرّواية، والمقالة وتكتب أيضا في مجال النقد . ولها الكثير من المؤلّفات “
وإذا أمعنا النّظر في العنوان بما هو عتبة أولى، يحمل العنوان
(أحمر شفاه) بين طيّاته تأويلا خفيّا سيتضح في ثنايا التّحليل؛ وهو عنوان يعبّر بكثير من العمق عن المجموعة القصصيّة التي تناولت فيها مجموعة من الأعطاب الاِجتماعيّة. وهي مستقاة من صلب المجتمع حيث تنمو الغواية دون وازع، وكثيرا ما تكون المرأة ضحيّتها.
تكشف المجموعة القصصية عن مرجعيّة ثقافيّة غنيّة، والمعرفة الخلفيّة الزاخرة بالحمولات المعرفيّة الأدبيّة والفنّيّة والعلميّة. وقد استطاعت الكاتبة أن تصهرها في بوتقة سرديّة موحية أحسنت إخراجها قصد إيصال رسالتها. وهذه الخاصيّة هي التي تفرد “أمل درويش” عن باقي روّاد القصّة القصيرة، إذ لابدّ للمبدع من تنويع بداياته ونهاياته كأن يستخدم مثلا بداية خارقة أو بداية حالمة أو بداية فضائيّة أو بداية حدثيّة أو بداية شخوصيّة.
ورأت الكاتبة أن تفتتح مجموعتها بتصدير هو التّالي: “ وقفتُ بصحبة زوجي نستقبل المدعوين وكنتُ طوال الوقت أشعُر بنظراته تلتهمني، تهاجمني من كل صوب وحدب ..”.
ونحن نعلم أنّ التّصدير عتبة من عتبات النّصّ ترغّب المتلقّي في الغوص في المتون. وانطلاقا من التّصدير يتّضح لنا أنّها ستعالج أحلاما مفتكّة وطموحا مضطهدا؛ وأننا أمام صيحة صارخة وتنبيه من الكاتبة التي راهنت بقوة على الفضح والتنديد من أجل الإصلاح قبل فوات الأوان
ويتكوّن هذا الأثر من اِثنتي عشرة قصّة جمعها العنوان:” أحمر شفاه”؛ إنّها قصص تدقّ أبوابا أخرى غير التي تُتداول وتختزل قضيّة المرأة في حريّة السّلوك وغيرها، إذ لم تعد المسألة مسألة حريّات بل مسألة وجود تعيشه كلّ النّساء باِختلاف الأعمار والخصائص النّفسيّة وحتّى الفكريّة. إنّه وجع المرأة المثقّفة والمبدعة والمرأة الأمّ والزّوجة والبنت. وتتعدّد الوجوه لتثبت واقعا بغاية النّظر فيه نقدا وتقويما حتّى تتجلّى المرأة /الإنسان لا المرأة /الأنثى فحسب. وشخصيّات أمل درويش أنثويّة مسكونة بالرّغبة في النّهوض وحالمة بالتّجديد.
فتطفح قصصها بمشاعر ذاتية وإنسانية مع تصوير صراع الإنسان وخاصة المرأة مع ذاتها وواقعها المحبط فتطرقت الكاتبة للعلاقات الإنسانية الأشد تعقيدا وهي تضع بين يدي القارئ قصصا تبحث شخوصها القلقة عن الأمل الضائع أو المنفلت من بين أنياب الردى فتصارع من أجل الانتصار لعدالة قضاياها الإنسانية.
وبدت الكاتبة معنيّة بالحفاظ على عالم نقيّ يسود حياتنا الاِجتماعيّة؛ لذلك تقوم بتسليط الضّوء على العلاقة المشروخة بين الرّجل والمرأة. فقدّمتها عبر صوت أعماق المرأة التي تبوح بآلامها وتسرد قهرها.
من هنا نلمس لدى الكاتبة تعاطفا ضمنيّا مع المرأة؛ فنسمع وجهة نظرها في حين يغيب صوت الرّجل في هذه القصّة حتى تبدو لنا في القصّة اِمرأة جديدة تبحث عن ذاتها، فنجدها عبر الإبداع الفنّيّ. كما أسهمت اللّغة في بناء القصّة واستطاعت أن تجسّد الحلم والمكوّنات الدّاخليّة اللاّشعوريّة الأخرى.
وقد جعلتنا الكاتبة نعايش تفاصيل الأزمة الوجوديّة التي تعيشها المرأة منذ الاِفتتاحيّة؛ وقدّمت عبّر ذلك كلّه صورة فنّيّة تشكلّ معادلا لحقيقة بتنا اليوم نحايثها، وهي اِفتقاد كلّ ما هو جوهريّ ينعش الوجود الإنسانيّ ويعطي الحياة معنى. وما نلاحظه في هذه المجموعة هو تسليط الضّوء على صوت المرأة في لحظة تأزّم. فتقدّم لنا الحقيقة العارية التي تعني خلاصة تجربتها المرّة في الحياة؛ هي لحظة مأزومة تمرّ بها المرأة تزيدها قلقا وخوفا من الحياة.
وقد سبرت القاصّة أغوار نفسيّة المرأة ورسمت ملامحها؛ ومثاله القصّة الأولى الموسومة بـ “نور”. فقد صوّرت فيها الكاتبة عالم المرأة الإبداعيّ ووجع الحرف بما هو خلق للكلمة، لتستحيل الكتابة مخاضا وجنونا بل سعادة تشفيها من كلّ الأوجاع. وهي بمثابة علاج نفسيّ لآلام متراكمة في الأعماق ووجع يرقد في أحشاء الكاتب ويكبر داخله بهدوء، لكنّه يولد عندما تكتمل عناصره.
ومن القضايا التي أثارتها أمل درويش في أقصوصتها “نور” مسألة أهمال الزوج واهتمامه بعمله على حساب مشاعر زوجته..
-” تعال الليلة.. أريدك أكثر من ذي قبل، لا تترك هذا الإعصار
يلتهمني.. أرجوك..
ولكن لا حياة لمن تنادي؛ وسمير لم يكن يشعر بشئ مما يجول
في صدرها؛ فقد ضمن مشاعرها منذ زواجهما وأصبحت ملكه
دون شك..
ولم تفلح كل محاولاتها في لفت أنظاره..
هكذا وصفت الكاتبة مشاعر الزوجة وإهمال زوجها. ببراعة
ففي القصّة الثّانية تعتمد كثيرا على الخيال؛
كما تطرّقت أمل درويش في مجموعتها إلى مسألة الزواج المبكر للبنات وعدم الحّرية في اِختيار الزّوج من خلال القصّة الثانية والموسومة بعنوان: “حليمة “، فصوّرت معاناة البنات في الزواج المبكر والتي صورتها الكاتبة “بشاة مسلوبة الإرادة ُتساق إلى حتفها”
اِستسلمت كأنّه الموت، كأنّها معركة خاسرة، كأنّها آخر الخطى وكأنّه آخر نفسٍ“ كما تناولت الكاتبة الكثير من القضايا التي لن نأتي على ذكرها جميعا.
ومن هذا المنطلق، نستطيع الجزم بأنّ أمل درويش قد عمدت إلى النّفاذ إلى عمق معاناة الشّخصيّة؛ ومنحت المناخ النّفسيّ الخارجيّ أوصافا تصبّب إيقاعها وتواترها في العوالم الدّاخليّة للشّخصيّة، فتتلاحم الأشياء المحيطة بالإنسان بوصفها جزءًا من علاقته الاِجتماعيّة وهي أبرز المزايا والخصال الفنّيّة في قوّتها.
ولعلّ هذه المجموعات القصصيّة قد أبانت عن العديد من المواقف التي تعيشها المرأة والتي تستطيع وحدها الكشف عنها بتفصيل إذ توغّلت القاصّة في عمق الذات النسائيّة وعبرت بلغة المرأة عن همّها وأحلامها وهواجسها وطموحها وخوفها ورغبتها.
من هنا، واِنطلاقا ممّا تقدّم، يمكن القول إنّ الأدب النّسائيّ هو تعبير المرأة عن أجواء القهر والمصادرة في ظلّ اِنغمارها بهذه الأجواء. إنّه طرق باب المسكوت عنه في سبيل الحرّيّة والاِنعتاق وإثبات الذّات. وقد أضافت مساهمات المرأة في الحقل الأدبيّ سمات جديدة فاُعتبرت كتابات المرأة وسيلة من وسائل تحرّرها وسبيلا من سبل الخلاص من وضعها في مجتمع لا ينزّلها منزلة متكافئة مع الرّجل. وقد اِستلزم هذا النّوع من الأدب قدرا لا بأس به من الجرأة.
التعليقات متوقفه