غزة والحقيقة الحمراء: الشعر كأداة مقاومة

1٬323

أعدّ الحِوار: علاء الدين قسول.

مع الشّاعر الفلسطينيّ/ الْغَزّي: أحمد الحَطّاب.

لِأَنَّهُ شَاعِرٌ.. أُحرِقَتْ خَيْمَتُهُ، فتَلقّفَ خَيطَ دُخَان تَصَعَّد، شدَّ بهِ خصرَهُ إلى جذعِ الزَّيتونَة/ التِّينَةِ عَلَّهُ يَنجُو أخِيرا مِنْ مَدِّ الخَيبَة، وغَفَا واقِفًا كالْوَتد، لِتَنبُتَ سبعَةُ أحلامٍ في دَهشَتِه الصَّمَّاء حَيرَةً إثْرَ حَيْرة.. فجأةً، اهتزَّت الأرضُ تحتَ قدميهِ فاسْتفَاقَ واضِعًا يدَهُ علَى صدره المكشُوفِ، وَهْوَ يهمسُ في أُذنِ الرّيح: رُبّما لَم يحِن دوريَ بعدُ! ثمَّ أقْفَلَ عيْنيهِ مُجدَّدا وَصَاح:

 

فِيْ غَزَّةَ؛

وَإِنْ قُتِلْنَا جَمِيعًا… فَلْيَكُنْ شَرَفًا

أَنْ كَانَ يَعْرِفُنَا الزَّيْتُونُ والتِّينُ!”

 

لأنَّهُ “أحمدُ الْحَطَّاب” الشّاعر الفِلسطِينيّ/ الغزّي.. هَاهُوَ يَطرُقُ بَابَ الْحقِيقَةِ الْحَمْرَاء بعد أن اِجْتَازَ شَبّاك هذا الوهْمِ الكبيرِ الّذي سُمّي ذاتَ نكْسَةٍ نِصفَ حَيَاة

 

البئر تنتظر وقوفك يا “أحمد” على حافّتها، وهي المهيّأة -كما قيل- لِتعكس صورتك الأولى التي شّكلتها الأرض عَنْك ثمّ خبّأتْهَا في أعماقك، ماذا سيُبصر “أحمد الحطاب” لَو واجَهَ صَفحَة الْمَاء الْمَجلُوّة؟ شاعرا أم روائيا أم إنْسَانًا داخِل إنْسان؟

سأبصرُ شاعرًا شامِخًا فوقَ أنقاضِ غزَّتِهِ يحمل البلادَ سماءً كما أنجبته شهيدًا، وأبصرُ روائيا أثقلت كتِفَه النهايات المأساوية، يروي قصة شعبٍ أحب الحياة والحرية، وأبصرُ إنسانًا جردَّتُهُ الإنسانيةُ جمعاءَ وشعبَهُ من الإنسانية.

 

 أبْدى لنا الزّمن وجها لم تألفه الأمة قطّ، فصَار السّواد الأعظمُ منهَا مشْدُودا إلى الزّاوية المُظلِمَة/ الْمَظَلَّلَة اِتّقَاءً وَاختِلَافًا، هل ترى للشّاعر الْعَربيّ -اليومَ- سَاعِدًا يمدّه إليها فتتعلّقَ بِه، فَتَخرجَ إلى بُقعَةِ النُّور أم أنّ الشّاعر ذاته -هُو الْآخَرُ- في حاجَةٍ إلَى صَوتٍ يُبينُ به مِن الزّاوِيَة ذاتِهَا؟

لا شك أن الشعر رسالة نبيلة، ولا شك أن القلم أحد أهم الأسلحة في العصر الحديث، ولا شك أن الشاعر هو أرقى مخلوق، الشعراء يعلمون الحقيقة تماما حَدَّ التخاذل العربي، وهذه الأمة العظيمة لا زالت تقبع تحت أنقاض الزاوية المظلمة بسبب التشويش الغربي عليها إعلاميا عبر “البروباغاندا”، لكن التشويش الأكبر يكون عبر بعض الحكام العرب المتآمرين، وهنا تكمن مهمة الشاعر الإنسان الحقيقي، أن يكسر الغربال الذي يحجب الشمس للأبد.

 

“غَزّة”… يَكفِي أن تَنطِق بِالْكَلِمَة لِيصطَفّ شَعبٌ من الحُزنِ وَالألَمِ والْخَيبَة.. هَلْ أَصبَحَ الحزن ضَرُورَة تُغَذي قَصَائدَ الشّاعِر الفِلسطِينيّ/ الغزّي أم أنّه مُقْسِمٌ عَلَى أن يركَبَ تيّارَ النّهرِ الْثّائِر؟

لم يعد الحزن ضرورة كالسّابق بل أصبح واقعا مؤلما اعتدنا عليه، وسيبقى كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لكن الثورة والجهاد ضرورة مُلِحّة ولا تقل أهمية عن الجهاد في الميدان لدى الشاعر، فهي بمثابة وعيد وانتقام ممن سرقوا منَّا الحياة التي كنا نعيشها لنحب.

 

من أيّ منهَل زَمنيّ أصبحت الصّورة الشّعريّة تتزوّد بِمُقتنَيات الْمَعنَى الذي تُنجبُهُ قَريحَتك، الماضي وسَكنات ذكرياته، الواقِع المكبّلُ بِالْمَأساة أمِ الْغَدُ الْمُشكَّلُ بِالْيَقين؟

أعتقد أنني لا أخضع لأي زمان ومكان، ذكريات الماضي وحدها كفيلة بخلق سماءٍ المعاني، إلا أن ما جرى كان بمثابة زيت على النار، تأججت المشاعر وانتفضت الحواس واشتعل القلب شيبًا، فلم أكُ بدعاءِ الغدِ شَقيَّا!!!

 

 يَأبَى الشّاعر/ الأديب تفسير ما ينشِئُ غَالِبًا، فَهو مُكتَفٍ بِالْكِتابَة الأُولى مُنتَظرًا تَفرِيخَها فِي عُشّ التّأويل، لكنّني أودّ أن أَشهَدَ الدّفقة الأولى حين أنشأْتَ متحسّرا:

يا ليتها كانت سماءً مُقْفَلةْ!!

مَا المَقصُود بِهذهِ الْعِبارة المُكتظّة بأصوات الغزّيّين؟

تلك الأرواح الطاهرة التي اِقتُلعت من أجساد عائلتي وأقاربي وأصدقائي، تلك الأرواح كانت مسافرةً نحو السماء بعد أن ألبستها اللون الأبيض تاركةً إيّاي وحيدا تحت أنقاض الحروف، ليتها كانت سماءً مغلقة لتعود أرواحهم مجددًا لأجسادهم النّحيلة التي نهشها الجوع والقصف.

 

لَكَ رُوحٌ في وَطَنِي “الْجَزَائر”، دُون شكّ تحنّ إلى أمّك الثّالثة بعد أمك وَفلسطِين، وأنت الذي تخرجت في إحدى جامعاتها مُتخصِصًا في “الْقانُون الدُّولي الْعامّ”، مَا السّر في اصطفاء هَذا التخصّص النّوعي؟ هَل اِستمدّ الشّاعر داخِلك مِنهُ حَبكةً سياسيّة تُتَيحُ له نافِذةَ الرّؤية/ الرُّؤيَا إِلى الشِعرٍ المُقاوَمتيّ؟

أحب هذا التخصص جدّا، وأعتبره نوع من الجهاد، طامحًا أن أنصر فلسطين في المحافل الدولية سياسيةً كانت أم دبلوماسية، وقد انعكس هذا التخصص على الشعر بشكل ضمني ومجازي، كٌل ينصر القضية لكن بطريقته الخاصة.

 

بَينَ الشّعر والرّواية مسافة صفر في الأدب الحديث، كِلاهُمَا يُجتَث من تُربَة حمراءَ، أَيهُما أقرَبُ لِرصد الوَضع الفلسطينيّ الرّاهن فِي رأيكَ؟

لكلٍ منهما طريقته الخاصة في سرد الواقع والحقيقة، لكن القصيدة أصدق وأوجع مهما قصرت، والرواية أكثر واقعية وإن طالت، لكن لتغطية الوضع الفلسطيني الراهن بشكل كامل سنحتاج للمجاز والواقعية معا لنجسد الصورة كاملة.

ذَاتَ أمَلٍ سُئلتُ: مَا الأمل؟

فأجبتُ: مَعصُوبَ الْعَينَينِ، تَوَهّمْ أنك تحاول التصويبَ نحوَ الهَدَفِ وَليس في البندقيّةِ إلّا رصاصةٌ واحدة، “الأملُ هُو أَلّا تضغَطَ على الزّناد“.

ما تعلِيقُك؟ ثُم بِأَيّ أَدَاة/ سِلاحٍ تَقِيسُ الأَمَل؟

الأمل هو الحب، والحب هو أحد الأسلحة الفتاكة التي يجهلها الجميع، نعم تم هدم غزة وتسويتها بالأرض إلا أنني قلت ذات قصيدة:

لأَنَّ ثَمَّةَ أَحْلَامًا مُؤَجَّلَةً

سَيَرْتَدِي طَائِرُ الفِينِيقِ غَزَّتَنَا

اُكتُبْ لِنَرَى بِالعينِ الثّالثة ما لم نرَه بعينَينِ اثنَتَين، اطبَع قصيدة من اختيارك على جِدار هَذَا البَيان الثّقافي.

عائدا من المنفى

عَلَى عَتَبَاتِ الغَيْمِ تَنْحَتُنِي الذِّكْرَى

وَتَسْرِدُ لِلصَّحْرَاءِ فِي دَاخِلِي نَهْرَا

 

بِلا جِهَةٍ كالرِّيحِ أحرُسُ مَوطِنًا

وَأَغْزِلُ أَحْلَامِي عَلَى بَابِهِ سِرَا

 

أَمُدُّ يَدًا للرَّاحِلِينَ ولَيسَ لِي

سِوَى أَثرٍ من رَعشَةِ الضُوءِ فِي الأُخْرَى

 

وَخَبَّأْتُ أَقْصَى الرُّوحِ شَوْقًا يُضِيؤُنِي

فَفِي عَتْمَةِ المَنْفَى اِسْتَحَالَ دَمِي فَجْرَا

 

يُلَوِّحُ لِي الزَّيْتُونُ فِي كُلِّ غُرْبَةٍ

فَأَلْمَحُ أَرْضًاَ فَارَقَتْ شَعْبَهَا قَسْرَا

 

وَشَيْخًا كَبِيرًا رَطَّبَ الثَّلْجُ رَأْسَهُ

تَشَبَّثَ فِي آمَالِ عَوْدَتِهِ عُمْرَا

 

أُحَدِثُ ظِلِّي عَنْ مَلَامِحِ قَرْيَتِي

فَيَفرِشُ أَشواقِي لأَعبُرَهَا جِسْرَا

 

مَشَيتُ غَرِيبًا يَرْتَدِي العُمْرَ مِعْطَفًا

وَيُشْعِلُ فِي المُوّالِ أَحْزَانَهُ جَمْرَا

 

إِلى حَيْثُ بَاحَاتٍ تَعُجُّ سَمَاؤُهَا

مَلَائِكَةً ظَلَّتْ إِلى رَبِّهَا تَتْرَى

 

فَيَا قُدْسُ مَهْمَا الوَقْتُ أَجَّلَ نَفْسَهُ

سَتُرْفَعُ رَايَاتٌ غَدًا تَرْتَدِي النَّصْرَا

 

صَرَختُ بِحَجمِ الحَربِ … لَستُ بشَاعِرٍ

أنَا عَاشِقٌ لكِنهُ يَذرِفُ الشِّعرَا

 

أنَا عَابرٌ والمَوتُ يَنهشُ تُرْبَتِي

وَفِي دَاخِلِي أَيُوبُ لَم يَسْتَطِع صَبْرَا

 

أنا دَمعَةُ الأُم التي اِستَشهَدَ اِبنُهَا

وَزَفَّتهُ للنَّجمَاتِ إذ جَاوَرَ البَدْرَا

 

أَقُولُ وَفِي كَفَيَّ أَحْمِلُ جُثَّتِي

خُذُوْا الطِّينَ والأَشْجَارَ والرَّمْلَ والبَحْرَا

 

خُذُوا مَا تَبَقَّى مِنْ نَشِيدِ رَصَاصِنَا

سَيَنْحَتَنَا التَّارِيخُ فِي صَدْرِهِ حِبْرَا

 

خُذُوا كلَّ هَذِي الأَرْضِ لَيْسَ يَهُمُّنِي

ولكن دَعُوا لِي في فِلِسطِينِها قَبْرَا

 

تَكَادُ دُمُوعَ الغَيْمِ تُسْعِفُ نَخْلَةً

تُصَلِّي عَلى من مَاتَ فِي غَزَّتِي غَدْرَا

 

وتَربِطُ جُرحَ القُدسِ وَعدًا يُخِيفُهُم

وتَتلُو مِن الإِسْرَاءِ: سُبحَانَ مَنْ أَسْرَى.

اقرأ أيضا:

الجمهورية والعالم تحاور الشاعر الجزائري علاء الدين قسول

Visited 25 times, 1 visit(s) today

التعليقات متوقفه