أسألك الرحيلا بقاء رغم الرحيل

941

أ.د/ جودة مبروك

في البدء يجتمع ثلاثة من عباقرة الزمان وأبهى زمان، عبد الوهاب ونزار ونجاة، وذلك بحد ذاته زلزال في عالم الفن وفي فضاء المشاعر التي لا تُباع ولا تُهان، يستمع عبد الوهاب إلى هذه الكلمات وهي ما زالت بحوذة الموجي الملحن الكبير فقد اشتراها من نزار قباني، فيشتريها عبد الوهاب منه بعشرة آلاف جنيه كما سمعت، وهو مبلغ كبير في هذا الوقت، اشتراها لتصبح مشروعًا لإنتاج أغلى لحظات ودقائق في عمر المذياع والمسرح خاصة عندما يختار لها صوتًا هامسًا هو نجاة، فتكون لحنًا خالدًا، ولا عجب فإنه عبد الوهاب واحد من أهم من عزف على قلب المستمع وحرك مشاعره وأذاق روحه طعم الألحان.

لقد سبقت هذا الهوس الوهابي حروف وكلمات هي وصفة طبيب لعلاج أنين الذكريات ووجع البعاد واستحضار الشوق الهائج، تبدأ القصيدة فتنبئ عن حجم الألم والفَقْدِ فتهمس الحبيبة إلى حبيبها تسأله الرحيل بقولها:

لخير هذا الحب يا حبيبي وخيرنا
أسالك الرحيلا
بحق ما لدينا من ذكرى غالية كانت على كلينا
بحق حب رائع ما زال مرسومًا بمقلتينا
ما زال منقوشًا على يدينا
بحق ما كتبته إلي من رسائل
وحبك الباقي على شعري على أناملي
بحق ذكرياتنا وحبنا الجميل وابتسامنا
بحق أحلى قصة للحب في زماننا
أسألك الرحيلا

الفراق أم البقاء؟ حيرة نزار قباني في “أسألك الرحيلا” بين العشق والألم

 

تلك مرافعة فنية في محكمة الألحان، أقول هذا لتكرار لفظة ((بحق)) في هذا المقطع خمس مرات، وكان طلب الدفاع  من كل ما سرده ((أسألك الرحيلا)) عنوان القصيدة.

يستمر الشاعر في الإقناع والإتيان بالحجة، لكنه ما زال يتقمص دور المحب الحالم، فتتسم ألفاظه بالرقة والعذوبة ينتقيها من عَبَقِ وأنفاس معجم الرومانسيين على طريقة إبراهيم ناجي وإيليا أبو ماضي، فيبرهن على ضرورة الرحيل وحتميته بمثال الطيور التي تفارق كل عام أوطانها، وغياب الشمس كل يوم، فيقول راويًا عن الحبيبة:

 

أسالك الرحيلا
لنفترق أحباباً فالطير كل موسم تفارق الهضابا
والشمس يا حبيبي تكون أحلى عندما تحاول الغيابا

لكن هناك لحظة فارقة في القصيدة هي انتصار الحب أو حب الانتصار، عندما تطلب الحبيبة منه البقاء لنهاية العمر، فعليه أن يغيِّر ملابس السفر، فيقول:

انزع حبيبي معطف السفر
وابق معي حتي نهايات العمر

وهو الضعف السمة الأساسية عند شعراء الرومانسية، فإيمانهم بالقضاء والقدر غالب على أمرهم، وأنهم لا يستطيعون تغيير الطبيعة، وذلك في قوله:
فما أنا مجنونة كي أوقف القضاء والقدر
وما أنا مجنونة كي أطفئ القمر

باستعمال أداة النفي ((ما)) مع ((أنا)) إنكار تصورالقدرة والاعتراف بالعجز، ويأتي توظيف الشاعر بمفردات اللغة وتراكيبها فتعكس طاقة دلالية لها جاذبيتها، في جمل متوازية: ((كي أوقف القضاء والقدر… كي أطفئ القمر))، فيقترب من لغة العابد في معبده، وتلك الجمل وردت بعد جملة مكررة في البيتين ، فيها إشراقة وفيها قرب من حياة الناس: فما أنا مجنونة! وهي تحمل التعجب.

يعبر الشاعر عن حتمية الحب وحاجة الحبيبة لها، كأنها تسير وفق المقولة: نقطة قوة المرأة رجل، ونقطة ضعف الرجل امرأة، فذلك هو الطبيعة الإنسانية  فيروي على لسان الحبيبة بأسئلة استنكارية تعجبية:

ماذا أنا لو أنت لا تحبني!
ما الليل ما النهار ما النجوم ما السهر!

لتعبر عن عدم الأشياء وفقدان الوجود، بقوله:

ستصبح الأيام لا طعم لها
وتصبح الحقول لا لون لها
وتصبح الأشكال لا شكل لها
ويصبح الربيع مستحيلا
والعمر مستحيلا

وكما قلنا تنبئ القصيدة عن المفارقة وكسر التوقع ، فالحبيبة وهي تسأله الرحيلا تضمر بداخلها طلب البقاء ففيه الحب والحياة، فتقول:
ابق حبيبي دائما كي يورق الشجر
ابق حبيبي دائما كي يهطل المطر
ابق حبيبي دائما كي تطلع الوردة من قلب حجر
لا تكترث بكل ما اقول يا حبيبي
في زمن الوحدة او وقت الضجر
وابق معي إذا أنا سألتك الرحيلاَ

ما أحلاه الألم عندما يخترق قلب الفنان ويملؤه بالشجن، وما أجمله نزار وهو ينعبش في مقابر الذكريات المدفونة، متحدثًا عن حياته التي تستمد بقاءها من الحبيب.

نرى ذلك في كلمات دامعة ونبضات متسارعة وقلب تأخذه رجفات مواقف الحياة الصاخبة من طلب الفراق، تجسدها قصيدة “أسألك الرحيلا” التي ضُمَّت إلى قصائده التي تسمى : قصائد متوحشة؛ لوقعها النفسي الكبير، وهو يعبر عن حيرته بين طلبه من حبيبه الرحيل ومن ألم الفراق وطلب البقاء، ليصور لنا صراعًا نفسيًّا موحشًا، فلو كان الفراق هو الحلّ فلماذا لم يتخذ الخطوة هو ويرحل بسلام؟

ولكنه لا يقدر على ذلك فيحتاج العون والمساعدة بطلبه من الطرف الآخر بالرحيل، لقد علم من أوجاع قلبه وحرقة الشوق أنه برحيل حبيبه لا يطيق الحياة، فيسأله في النهاية البقاء،

إن هذه الصورة معتادة في الآداب العربية والعالمية، صورة المحب الذي يتمنى بعد أن ذاق آلام العشق ولوعة الحب لو نسي تجربته، أو تتحول إلى صداقة إنسانية عادية، وها هو ذا الشاعر في موقف لا يحسد عليه، فلا هو قادر على الوصال ولا هو قادر على البعاد، فما كان منه إلا أن يصل إلى نتيجته:

وابقَ مَعِي إذا أنا سألتُكَ الرَّحِيلاَ

فبإدراكه للقيمة الإنسانية والنفسية التي حصدها من حبه، الذي صار الكون وجماله والنجوم وضياءها والأشجار واخضرارها.

اقرأ أيضا:
طه حسين ومستقبل التعليم في مصر برؤيةٍ معاصرةٍ 

Visited 122 times, 1 visit(s) today

التعليقات متوقفه