رشيد دحمون: أنا -صراحة- لا أولّي وجهي -في الشعر- إلّا إلى قبلة واحدة.. هي الجمال.

741

أَعَدَّ الْحِوَار: علاء الدين قسول.

معَ ضَيْفِهِ: الشّاعر الجزائري: “رشيد دحمون”.

  • على قُبَّة جَبَلٍ جرداءَ يقفُ “الْبَدويّ” متأمِّلا كصوفيّ يُردّد “السّبع المَثَانِي”، وإذ بالقّمّة تتعمّم بعمامَتِه البيضاءَ، فلستَ تَرى في القِمّة -وقتَها- إلّا بياض البياضِ، رُبّما يكونُ حَافِيًا، خَاليَ اليَديْنِ كَما تَرى، ولكنّه ما زال حيًّا مملوءَ الرّئتينِ، ما زال إنسَانًا يتنفّسُ وَيَرَى، لِيَشْعُرَ.
  • الجزائري “رشيد دحمون”، الشّاعر البدويّ –في حدّ وصفه لنفسه- المتوّج بجائزة “علي معاشي” لرئيس الدّولة الجزائريّة، المطلُّ من أعالي قُبَبِ “إقليم التّيطريّ المُداينيّ الجزائري”، يُلقي صنّارته في البحر السّماويّ وينتظر الكون –على مهل- ليُلقِيَ إليه سلامَهُ نَجمَةً ذهبيةً، هي “القصيدةُ العربيّة.”

س1/ لم تَزَل مُنشِدًا:

“اِبْنُ البَوَادِي، أنَا..

لَمْ أَقْتَرِفْ مُدُنًا إلّا وعُكَّازُ أجْدَادِي..

عَلى كتِفِي!”

_ العُكّاز “هذه العصا المعقُوفَة” التي لَا تُذلّل رقَبَتَها الْمَلسَاء إلّا لراحَة يد خَشِنَة/ صَلبَة، أيُّ عُكّاز وأيّ سَنَد وأيّة بِيئَة ساهَمَت فِي انبِثَاق الشّاعر “رشيد دحمون” إلى الْوُجُود؟

ج1/ في الحقيقة -أعتقد- أنّ البيئة وحدها لا تخلق الشّاعر/ الفنّان، وفي الوقت نفسه.. لا أنكر دورها، إذ من غير المنطقيّ ذلك.. نشأتُ في بيئة ريفية، بسيطة جدّا، وقاسية؛ مارست فيها الكثير من النشاطات البدويّة، أهمّها الرّعي، ولا أبالغ إن قلتُ إنّ لهذه الأخيرة فضلا كبيرا في بداياتي؛ إذ أنّني كنت أقضي فيها ساعاتٍ.. أستغلّها في تطوير ملكتي (مطالعةً ونظمًا) خاصّة وأنّ ذلك الزّمن لم تكن فيه قاتلاتُ الوقت؛ أقصد وسائل التواصل الاجتماعي، وأظنّ أنّي كنت محظوظًا فيما ذكرتُ!

س2/ تَقُولُ عرّافَةُ السُّوق: كَانَ أَبِي الشّاعرُ يُخبّئ لُغَتَه فِي جَيبِه، وَيدخُلُ السُوقَ بَاحِثًا ثُمّ وَاجِدًا، حتّى إذا هَمَّ بإدخال يدِه فِي جَيبِه -يُريدُ إنْفَاقَ هَذه اللّغة- اكتَشَفَ ثُقْبًا نَازِفًا غَيّر خارطَة الْجَيْب، فالتفت مُسرِعًا من ورائه علّه يَستعِيدُ بَعضَهَا، وإذْ بِه يُصادِفُ قَطِيعًا مِنَ الشّجَرِ الأخضَر يمتَدُّ إلى أوّل مَمشَاه، أَسَرَهُ المَشهدُ وغلّف قلبَه بالقَبُول، فَتعمَّد -مذ ذلك الحين- إحداث الثقوب في جيوبه كلما أقبَل نَحو السّوق، لِيَكْتَسِبَ -أخِيرًا- لُغَتَهُ بَعد أن أنْفَقَها -بطريقَتِهِ- فِي “الأسلُوب.”

-أتُصدّق قصّة عرّافة السّوق؟ هَل تُبادِر أنتَ فتتقدَّمَ لُغتَك عِندَ الْآخَر أم أنّ لغتَك تسبِقُكَ إِلَيْه؟

ج2/ كثيرًا ما تغنّى الشّعراء -قبلي- بالعرّافة، خاطبوها، حاوروها، عاتبوها.. في قصائدَ طويلة جِدا، فكيف بي أتجرّأ.. فأُكذّبها؟ وهي العارفة  !إنّ ما قالتْهُ العرّافة -حسب روايتك عنها- لهو “الحكمة”، و”الفنّ”.

_ لقد أيقنتْ أنّ اللّغة الّتي لا ننفقُ منها هي لغة عاقر، وأنّنا لا نكسبُ من اللغة إلّا بقدْر ما ننفق على الآخر، وهذا الآخر -عندنا- هو القارئُ المتذوّق ! أمّا عن السِّباق بين “اللّغة”، وبين “مالكِها” فهو سباق أبديٌّ، فمتى ظنّ الكاتب/ الشّاعر أنّه سبق لغتَه الّتي يكتب بها فقد خسر! ومتى اِستسلم واعترف أن اللغة تملِكه/ تسبقه فقد خسر أيضا!

_ إنّ المتعة تكمن في المطاردة، وفيما تخلقه هذه الأخيرة من تشويق، فإن ظنّ أنّه قبض عليها، أو قبضت عليه.. فقد انتهى الفنّ !

_ وأخيرا، يا صديقي.. لا تورّطني فيما تبقّى من أسئلةٍ كما فعلت هنا.. فقد جمعت نظريات اللّغويين والنّقاد، قديمهم وحديثهم.. ونسبته للعرّافة.. وتركتني وحيدا !

س3/ تقول: “المتعة تكمن في المطاردة”.. في رأيك هل يكتب الشاعر ليُصِيبَ لذة ومتعةً فيكون بذلك الشعر مجرّد لعبة وتنفيس شخصيّ أم أن الشّعر فعلٌ جادٌّ له ذراعه الطويلة على القضايا الإنسانية والاجتماعية والسّياسية…؟

ج3/ طالما أرّقت هذه القضية النقّاد والكُتّاب، مقسّمة إياهم إلى فريقين، كلّ فريق يعدد حججه محاولا حسم القضية.. إلّا أنّ الكفّة كانت تظلّ متوازنة..!

_ نعم، “المتعة تكمن في المطاردة”، ولو كان همّ الشّاعر.. قبض الفكرة.. لسهل عليه ذلك نثرًا! وقد دافع الجاحظ عن الفكرة.. قائلًا: “المعاني مطروحة على الطرقات”؛ منتصرًا لقولبة الفكرة، لا للفكرة نفسها..

وهذا الانتصار للمتعة.. لا يدل على إهمال “الفكرة”، إذ أن هذه الأخيرة شيء مفروغ منه..

أقول مختصرا: “الشّاعر هو الذي يستطيع أن يعلّمك -مثلا- وأنت مستمتع، أن يريك الحقيقة وأنت مُنتشٍ..

_ أخيرًا، الشّاعر، ليس من واجبه أن يغيّر ما يراه ظلما.. هو -فقط- يحرّك فيك ما يجعلك تنصر الحق، هو يزعج الظالم، يوصل القضية لمن له السلطة، يضغط عليه.. وكل هذا.. بطريقة جميلة!

س3/ “حين يصبح المشهد أقوى من التّصوير.. يذهبُ الشعرُ إلى دار العجزة”..

 _أي تصوير شعريّ سيقوى على التقاط المشهدِ الغزّي الرّاهن على الأقلِّ؟ ثم إنّ البعض يقلّل من دور الأدب/ الشّعر ويستدعي قوّة من جنس آخر (سياسية/ عسكريّة..)

 _هل أصبح الأدب/ الشعر مهدّدا بالعجز إذا ما تعلّق الأمر ب”غزّة” و”فلسطين” عموما؟

ج3/ أظنّ أنّ دور الشِّعر قد تراجعَ كثيرا في العقد الأخير على وجه الخصوص.. أقُول دور الشِّعر وليس مستواه، فصعب جدا أن يكون لقصيدة معينة دور مثلا في تحرير وطن! وأظن السبب في ما أتاحته وسائل التواصل الاجتماعي التي صعّبت مهمة البحث عن النصّ الجيّد..! الشعراء اليوم مطالبُون بتبرئة الذّمة على الأقلّ.. لا بتغيير الواقع، الشّاعر وهو ينْظم القصيدة فإنه يغسل يديه مما هو سائد.. وهذا أضعف الإيمان! ثم، لنكن واقعيين، “حِين تقُوم البندقيّة.. فإن دور القلم يتراجع كثيرا؛ إذ سيسصبح نشازًا”، ولكن، وأنت تقيم في طرف الأرض.. والقضية في طرف آخر، ما الذي بيدك فعله؟ أقول: ليس الأنفع أن نقلّل من قيمة الشِّعر.. فنزيله لتبقى القوى السياسية والعسكريّة .. بل أن يجتمع كلّ شيء.. ولنضرب مثلا.. “الصهاينة” اليوم يملكون القوة السياسية والعسكريّة، بل ويحكمون العالم فيهما وفي المجال الاقتصاديّ.. ألا يكفيهم ذلك حتى يضيقوا على مواقع التواصل الاجتماعي؟ فيحظروا كل ما يتعلق بالقضية.. ويقتلوا الصحفيين.. ما يفيدهم ذلك -إذًا- وهُم يملكون السياسة والعسكر؟ قد يهدّد العجز الشِّعر.. نعم.. قد يكون ذلك آنيًّا، غير أنّه لا يموت، ولن يفعل. ولكن هذه العجز قد يكون أيضا بسبب المتاجرين بالقضيّة.. فالشّاعر في مثل هذه القضايا الكبرى.. إمّا أن يكتب نصّا قويًّا، يعكِسُ حُرقته وخيبته.. وإمّا أن يلتزم الصمتَ “الجميل”..!

س4/ ألا ينبغي للنص أن ينطلق من سابق تأثّر بنَصّ أو نصوص أخرى حسب “السجل النصّيّ” لِــ”آيزر”؟ هَلَّا دَلَلتَني إِلَى الْعَين/ الْعُيون الّتي تفجّرت منهَا لُغَتُك؟

ج4/ الشاعر/ الكاتب لا يمكنه أن يعرف أيّ بئر نفختْ في لغته روح الشّاعر.. قد يكون متأثِّرا جدّا، ولكنّه لا يكتشف ذلك.. فيدّعي التّفرد! وكذلك الأمر معي.. أحسَبُني قد سلكت طريقا لا آثار لخطواتٍ فيها.. أنا الوحيد الذي سلكتها، وربّما أنا -فقط- أدّعي ذلك، فهناك من خاضها قبلي.. إلّا أن الرّيح محت آثارهم وكثيرا ما تفعل! وقد عبّرت عن هذا الموقف في ختام إحدى قصائدي قائلًا:

“متأخِّرًا آتِي.. ولكنْ ليْسَ لي

أحدٌ سِوى قلْبِي المقدّسِ.. أتبَعُهً”!

س5/ يَرى “جاستون باشلار” -رائد التيار الظاهراتي الحالم- أن أحلامنا وصور كلّ شاعر قد تحدّدت عن طريق الامتزاج بالأرض، الهواء، النّار والماء، ذلك الامتزاج اللاواعي الذي يؤكّد على ضرورة مخالفة العقل وتجاوز الخبرة الحسّيّة المباشرة، أو كما يطلق عليه “باشلار” في كتابه “الماء والأحلام” اسم: “قانون العناصر الأربعة  The Law of The four éléments”، القانون الذي استنهض فيما بعد شاعرية العناصر الأربعة “شاعرية: الأرض، الهواء، النّار، الماء”.

_ هل تعتبر نفسَك شاعرا ترابيّا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار تعلّقك الشديد بانتمائِك وكذا تعدد مصادر الأرض في شعرك وتمثّلاتها في قاموسك (كهف، تراب، صخر، جبل…)؟ ثم هل صحيح أن النّفوس التي تحلم تحت مظلة الأرض، أو تحت مظلة الهواء، أو تحت مظلة النّار، أو تحت مظلة المَاء، تظهر خلافا فيما بينها؟ إلى أي جهة نرجع أسباب هذا الخلاف؛ مستودع التخيّل عند الشاعر مثلا؟

ج5/ يقول ابن خلدون: “الإنسان ابن بيئته”، ينطلق منها، يفكر عن طريقها، يحلم انطلاقا مما يعايشه فيها.. والشّاعر إنسان.. على كل حال.. وبالتالي فهو لا يستطيع أن يخلق صورا شعريّة خارج بيئته، وإن فَعَلَ فستكون صورا متنافرة عناصرها..

_ ولو عُدنا قليلًا إلى تُراثنا الشِّعريّ العَربيّ، لوجدنا بأنّ الشّاعر العربي سبّاق للامتزاج بهذه العناصر الأربعة.. إذ عاش حياته في تواصل مباشر معها.. افترش الأرض، شرب الهواء، ارتوى بالماء، آنس النّار! والشِّعر عربي مثلما لِكُلِّ جنس أدبيّ أصله.. وبالتّالي ما من شاعر عربي إلا وانطلق من هذه العناصر الأربعة.. وكان ذلك تلقائيا.. دون أن ينظّر للظاهرة!

_ أخيرا، أعود إلى نفسي، أنا كائن بدويّ.. قبل أن أكون شاعرا، وإن كنت قد تصالحت والمدينة.. فإني -في كل الأحوال- مجرد لاجئ فيها..

_ “مُستودع التّخيّل” لدى الشّاعر.. أعتقد أنه يختلف من شاعر لآخر، من عصر لآخر، ومن بيئة لأخرى.. فالشّاعر هو كائن شعبي على كلّ حال.. يشارك مُجتمعه همومها، وأحلامها.. ولا يمكنه أن يرسم عالمه الشّعريّ إلّا انطلاقا من بيئته. وكون الشّاعر يخلق عالما غير عالمه فهذا لا يعني أن كل لوحاته خيالية، بل إنه يخلق بعناصر حقيقية عالما خياليا متصوّرًا.. وهنا يكمن الفنّ، وتبدو براعته في التصوير!

س6/ في رأيك: هل تتجلى “الواقعية الأدبية” في النقل الأمين لمفردات الواقع، أم في “الرؤية الإبداعيّة” لهذه المفردات، لغة وأسلوبا وتصويرا للأحداث؟

ج6/ الواقعية.. الأدب الواقعي، أظنّ أن “الواقعيّة الأدبية” تصلح في السّرد؛ الرواية.. أكثر مما تصلح في الشعر، لأن السّرد عبارة عن حكاية.. لها سياق زماني ومكاني.. يجعلها أقرب للحقيقة، أيْ يمكن أن تحكم حكما جازما أن الرواية “أ” تتناول الحدث “ج”.. وأيّ تهرّب من الروائي تحت غطاء “التخييل” هو محض تملّص من العتاب الموجه له من القارئ مثلا، وبالتالي فإن الرواية أكثر تمثّلًا للأدب الواقعي، بينما في الشعر.. الأمر مختلف قليلا.. فالشعر أبعد قليلا.. ومن الصعب علينا إسقاط القصيدة على الواقع.. باعتبار مقوّمات النص الشعري.. الذي تغلب عليه اللغة الشعريّة الإيحائيّة.. ويطغى عليه الرمز.. وتجرفه العاطفة.. وتغرقه المبالغة.. وهذي التي سبق ذكرها تجعل النص الشعري أبعد قليلا عن الإسقاط الواقعيّ.. فالقصيدة مثلا.. لا يحكمها زمان ومكان وشخصيات.. تجعلنا نسقطها على أحداث معينة!

س7/ هل تعتبر نفسك شاعرًا وَاقعيًّا؟

ج7/ إن إجابتي عن الفرع الأول من السؤال.. قد كشفت كثيرا عن الجزء الثاني منه.. فقصائدي ربما يصعب على القارئ إسقاطها على الواقع… لكنها في كل الأحوال.. قد يصلح بعضها أن يكون أدبًا واقعيا.. فأنا لا أخاطب -في نصوصي- قارئًا من عصر غابر.. بل أخاطب قارئًا مثلي.. يقف في الطوابير، يجلس في المقاهي.. ويثرثر في المحطّات والأسواق!

س8/ اِخترَاقُ الصّندوقِ القرَائيّ الأسود لِلْقَارِئ -وسط هذَا التّهَاوِي- مُهمّة الشّعر الْمُعَاصِر، تَحتَاجُ مِن مُنفّذِهَا “الشّاعِر” إلمَامًا بأدَوَاتِ/ أسلِحة نَوعيّة مُتخصِّصة، هَل بإمكانِك أنْ تَبُثّ شّريطَ القارئ الضمنيّ فِيكَ أَثنَاءَ الاِنغِمَاسِ فِي الكِتابَة فَتُكَاشِفَهُ؟  ثُمَّ مَا السّبيل إِلى تَصْوِيب الانشِطَارَات التّأوِيليّة لِهَذَا الْقَارِئ حتّى لَا يَتِيه؟

ج8/ القارئ المعاصر صعب اختراقه في الحقيقة، غير أنّ الوصول إلى ما يشتهي قراءته ليس مستحيلا، بل -دون مبالغة- أمر بسيط.. نبدأ بالجزء الأول من الإجابة؛ لماذا قلتُ إنه صعب الاختراق؟ لأن الإنسان المعاصر إنسان مؤدلج! ولا يمكنه أن يقرأ إلا لمن يشاركه الإيديولوجية، ولا أقصد بالإيديولوجية هنا “الدين”، بل بقية الأشياء الأخرى التي تجمع أفرادا وتفرق آخرين.. وقد تكون هذه الإيديولوجية في أدنى تمظهراتها “مِزاجًا”..! أمّا البساطة فتتمثل في أن يكتب الشاعر بفطرته، بإنسانيته، بعفويته.. دون تكلّف أو محاولة تموقع.. يكتب للجميع.. يلامس بساطتهم.. دواخلهم.. ما يشعرون به بينهم وبين أنفسهم.. بالنسبة للتيه الذي قد يقع فيه القارئ.. يجب أن نطرح أوّلا السؤال؟ من هو القارئ الذي نقصده؟ بعدها يتيسر علينا أن نجيب عن السؤال.. إن كان القارئ المتذوق الحامل لكمٍّ لا بأس به من الثقافة.. فهذا لا أعتقد أنه سيتيه إلا نادرا.. وهذه الـ”نادرا” تدخل في قول “المعنى في ذهن الكاتب”.. وإن تاه هذا القارئ.. وكثر تيهه في نص واحد.. فهذا قد يدل على إغراق الشاعر في الغموض.. وتكلفه إياه.. وهو نفسه يفقد القدرة على تأويل نصه!

س9/ “بَيضاء من كلّ إثم”، العنوان الذي توّجك بالمرتبة الأولى في جائزة “علي معاشي” لرئيس الدّولة الجزائريّة للمبدعين الشباب عن فئة الشعر الفصيح سنة “2022”. _كَيف اصطاد “رشيد دحمون” هذا العُنوان؟ وأيّ سيميائيّة خزّنتها في أبعاده الْقرائيّة؟ أيُّ مفتاح قدّمتهُ للقارئ؟

ج9/ تقول النظريات النقدية الحديثة.. “العنوان أوّل عتبة للنّص”، وأصارحك إنّي بعد أن انتهيت من تجهيز العمل، وتنسيقه، وتصفيفه كما يليق.. ثمّة تفرغت للعنوان.. تركت العمل جانبًا، ولم يدم هذا إلّا يومين أو ثلاثة، وقد كان من الممكن أن يدوم طويلًا.. إلا أن الفكرة قُذفت في ذهني فجأةً، ولا أذكر عن ذلك شيئًا آخر..

 _العنوان -عندي- كان يُمَثل شيئًا مهمًّا جدًّا.. لقد ركزت عليه كثيرا، وأوليته أهمية بالغة، إلّا أن العنوان أقنعني جدا، وقليلا ما أقتنع!

 _أمّا عن “العلامات/ السّمات” الذي أرسلتها للقارئ فيه، فسأترك له مهمة التنقيب عنه.. والبحث عن مفاتيحه، كي يشاركني “متعة المطاردة..!

س10/ بعد أن اجتهدت في التقاط صورة لك وأنت تدخل كهف المجاز.. رأيتك متبرنِسًا بِالْوِحدة الْعصمَاء.. وأنت القائل:

“وحدي.. وإن ضج المكان بألف وجه عابر..

وحدي أعلمني ضروب الصّبر..”

_ لم هذا الالتفاف بالذّات؟ هَلْ تتلذّذُ بِالْحُزنِ فِي غُربَةِ مَجَازِك؟

ج10/ في سؤالك -في الأعلى- إشارةٌ إلى الجواب! إنّك حِين تحدّثت عن الوحدة.. وصفتها بـ”العصماءِ”؛ اللّا عيْبَ فِيها..!

 _لقد ظلّ الشّعراء في مختلف العصور يفتخرون بأنفسهم، وعادةً ما ربطوا الفخر بالعزلة.. فالشّاعر الجاهلي يفتخر بخوضه الصّحراء وحيدًا، يفتخر بمواجهته للدّهر وحيدا.. فهذه “الوحدة” -عادةً-ما ترفع من قيمة الفخر.. ودرجاته عاليًا!

 _فالناجح.. ذلك المعتكف على نفسه، المكتشف لما فيها، المؤمن بها.. على قلّة ما فيها من مهارات.. إلّا أنّ اعتكافه وعزلته تخلق له كثيرا من الوقت الذي يكفي ليصقل تجاربه وينميها، عكس المتماهي “جدا” في مجتمعه.. عادة ما يفقد نفسه باحثا عن النشوة العابرة..!

 _أمّا عن الحزنِ، فأظنّه أكثر ما قد يلهم الشّاعر.. ولو بحثت عما قاله عنه الشّعراء والفلاسفة قديما.. لوجدتَ ما يؤيّد قولي، فـ”الشّاعر يحزن أكثر إذا لم يجد سببا للحزن”، لأن الحزن عنده ليس كحزن الآخرين.. بل هو قصيدة جديدة.. معنى مبتكر.. تجربة فارقة.. وما الدّهر إلّا تجارب!

س11/ مَا قِصّة “الكَهف وفِتيته” فِي أغلب قصائدك؟ وبِم تُفسّر سلطة القرآن لفظا ومعنى على شِعرِك؟

الكهفُ.. هل تصدّقني -ويُصدّقني القارئ من بعدك- لو أقول إنّي لم أنتبه إلى كثرة توظيفي لهذا الرّمز الصوفي الديني.. إلا بعدما طالعت إحدى مذكرات التخرج التي تناولت ديواني “بيضاءَ.. من كل إثم”.. فانتبهتُ إلى غزارة في استحضاري لهذا الرمز؟!

ج11/ الكهف، حقيقة.. هو ليس رمزا طبيعيا جامدا، ليس بمعناه المؤلوف.. ليس الكهف الذي كلّما توغّلت فيه ازداد العتمة، بل الذي كلما فعلت اكتشفت النّور الذي داخلك! آنست نفسك ولو قليلا..

الكهف، كما قلت في إحدى قصائدي، وأظنّني كنت قادرا على الاكتفاء به في الإجابة عن سؤالك.. “إنّ الكهْف صوتُ العارِفين/ الأصْفِياءْ”..!

 _يميل كثير من الشعراء المعاصرين إلى الانزياح القرآني، واستعارة المعاني الدينية أحيانا.. والألفاظ أحيانا أخرى.. وكثيرا ما كان هذا التوظيف موضة، أي أنك حين تتأمله لا تجد التوظيف مناسبا لذلك السياق.. ولا أبرّئ نفسي، فأنا مثلهم.. في بداياتي.. غير أن الأمر انتقل إلى الجدّية سريعًا.. والابتعاد عن المبالغة! أمّا عن السّبب الذي يخلق ذلك.. فريما يعود لميل الإنسان إلى تقليد القويّ، فالشّاعر ينزع إلى استعارة قبس من قدسيّة القرآن. بينما يتّهمه آخرون بأنّه يقلّده لخلق نوع من النّدية وهذا بعيد جدا عن الحقيقة!

س12/ “الشاّعر والصّوفيّ.. كلاهما يعتمد لغة الخصوص والمجاز والرّمز لا لغة العموم والوضُوح، فيبنيان جسرا من التأويل لا يعبره إلّا من ذاق التّجربة.”

_ لِمَ اتجهت قوارب الشّعراء نحو قبلة التّصوّف مؤخّرا؟ وهل تتبع هذه القبلة الفنّية؟

ج12/ ربّما يكون الجنوح الصّوفيّ سمة من سمات الشّعر المعاصر.. وربّما هو محض موضة يقلّدها المعاصرون.. كما فعل القدماء مع “المقدّمة الطلليّة”، ولكن -وفي كلّ الأحوال- نادرا ما نتصور شعرا معاصرًا تخفت فيه اللغة الصوفيّة.. بل إن بعض الشعراء يعادون الصوفية كإيديولوجية.. لكن قصائدهم طافحة بها.. وهذا يحيلنا إلى أن الشاعر لا يختار لنفسه هذه اللغة قصدا، بل إن نفسيته وصراعاتها.. مع هذا العصر السريع هي ما جعلته يميل إلى هذه النزعة..

,_وأريد أن أشير فقط.. إلى أن الصوفية في الشعر، ليس هي الصوفية الدينية.. ولو اشتركا في بعض العناصر والسمات..

 _أعود إلى نفسي، أنا -صراحة- لا أولّي وجهي -في الشعر- إلّا إلى قبلة واحدة.. هي الجمال.. فأينما وجدتُ الجمال حاولت اقتناصه.. وقد يكون هذا القالب “صوفيا”، كما قد لا يكون.. وإنّ الدارس لشعريّ أعلم بهذا منّي..!

س13/ “نفسيّة الشّاعر وصراعاتها” -كما تقول- تجرّنا غَالِبًا إلى جدليّة الشّك والْيَقين.

_ هل ينبغي للشّاعر أنْ يشدّ خاصِرته بالشّكّ كلّما ألقَى بنفسِه فِي الأعلَى المُتَصَاعِد؟

ج13/ الشّك واليقين، كثيرا ما خاض فيهما الشّعراء المعاصرون.. وقد افتخر بعضهم بانتصاره لليقين، بينما رأى آخرون أنّ التفرد يكون بالتحزب للشّك.. والمسألة هنا نسبية جدا.. تختلف من قصيدة لأخرى.. بل من معنى لآخر.. ولو أنني قد أكون في أغلب قصائدي التي تناولت فيها هذه الثنائية قد ملتُ إلى الشّك.. ربما لأنه تناسب والحالة الشعورية التي يحملها المعنى..!

س14/ “جودة القصيدة الحديثة لا تستند إلى طول نفس الشاعر في عدد أبياتها/ أسطرها أو قصره بل إلى…” إلى ماذا؟

ج14/ إن هذا السّؤال يطمئِنني جدا، يطمئن الشّاعر الذي يتملّكني! فأنا ذو نفس قصير في كلّ قصائدي.. تقريبًا. وهذا الأمر كثيرًا ما كان يزعجني، خاصّة في بداياتي.. وهذه “الصّفة” كانت سببًا حرمني من العديد من المسابقات الشِّعريّة والتي تشترط عددا من الأبيات. وسبب قصر نفسي؛ هو المزاج! المزاج “الشِّعريّ”، فأنا إذا بدأت قصيدةً اليوم.. ومنعني طارئٌ من إكمالها -وما أكثر طوارئ الحياة- فإنه يعسُر عليّ اِستئنافها بالدفقة نفسها، وبالحماس نفسه.. ولو جاهدتُ نفسي وفعلتُ لاِستشعر القارئ التّباينَ بين أبياتها، ولا أحبّ أن يستشعر القارئ مثل هذا..!

 _نعودُ الآن إلى العلاقة بين جودة النصّ وحجمه، لا أعتقد أنّ لحجم النص -دومًا- علاقة بجودته.. غير أنّنا لا ننكر أن النّص الذي تطول أبياته يصيبه الفتور، ويظهر -جليًّا وكثيرًا- التّباين بين أبياته.. والشّاعر الذي يحترم النصّ يخاف ويخجل من هذا..! فالقصائد الّتي استطاع أصحابها الحفاظ على مستوى التحليق في كل أبياتهم.. قلائلُ، ونادِرون.. ومتفرِّدون..!

 _إنّ الشّاعر قد يبذُل عشرة أبيات -مثلا- ليمهد -بها- لبيت واحدٍ يختم به، وهو -نفسه- يعتبر أنّ قصيدته جاءتْ خادمةً لهذا البيت!

 _إنّ عصرنا.. عصرٌ ملَول، وهذا الداء أصاب الجميع؛ شاعرًا وقارئًا.. غير أنّ الأهمّ والأبقى.. هو الجودة؛ وإنّ الخُلود لِلبيت الذي تنتشي بقراءته.. يصفق له اللّا شعور، هذا إن بقيَ هناك من ينتشي لقصيدة، ويصفق لتستمر.. لا لتنتهي!

 

علاء الدين قسول. معَ ضَيْفِهِ: الشّاعر الجزائري: “رشيد دحمون”.

 

س15/ المجدِّدُ يدُورُ فِي الاِتّجاهِ الْمُوَالِي لِقَلبِهِ، مُثبَّتًا على السّاق الْوَاحِدَة دُونَ أن يختَلَّ تَوازُنُه، لِيُبرهِن بِهذا الفِعل جَاذِبيّة السّكونَ بِالْحَرَكَة، كَيفَ يُبَرهِن “رشيد” نظريّته التّجدِيديّة؟

ج15/ هي في الأصل ليست نظرية، لأن النظرية تتطلب منهجية وبحثا ونتائج.. أما عن “التجديد” عند الشاعر فهو -من المفترض- الفطرة والتلقائية.. فالشّاعر يعيش في عصر يختلف عن بقية العصور.. يلبس لباس عصره، ويأكل أكل عصره.. ويفكر كما يفكر معاصروه، ويحلم بما هم يحلمون، فكيف به إذا كتب اِلتحف بأسلوب الأولين؟ إنّه يخاطب قارئا من عصره، يتجول في المدن، يدخل المقاهي، يعاني في الطوابير.. فلماذا إذا كتب تنكر لكل هذا؟ وذكر في قصائده الرحى (التي -ربما- لم يرها قطّ) وأكثر -إذا افتخر- من ذكر “السيف” الذي لا يحمله في عصره إلا صعاليك الأحياء و”الزطايلية”؟ الأمر بسيط، له الزاد من اللغة.. يلتزم به.. ويستعمله ليخاطب قومه كما هم يفهمون..!

س16/ يذكر ابن رشيق في العمدة: “وقد قيل: لا يزال المرءُ مستوراً وفي مندوحة ما لم يصنع شِعراً أو يؤلِّف كتاباً، لأنّ شِعرَه ترجمانُ علمه، وتأليفَه عنوانُ عقله.”

_ بِمَ تُعلِّق؟

ج16/ وقد قيل قديما: “من أَلّفَ.. فقد استُهدِفَ”، فالشّاعر -مثلا- وبعد أن ينشر عمله.. فقد عرّض عمله للتشريح، وهذا الأخير قد يرفعه عاليًا، كما قد يهوي به حيث لا يقوم بعدها أبدًا! إن القارئ اليوم.. قد يكون أكثر ثقافة واطّلاعًا من الشّاعر، أو هو مثله، وهذا التقارب.. يجعل أي عثرة يقع فيها الشاعر.. يكشفها القارئ.. وهذا يبدأ من اللغة نفسها.. فأنا -مثلا- لو كنت قد أخطأتُ في رسم همزة ما في هذا الحوار.. فإن القارئ سيسهل عليه كشف السقطة، وهذا الأمر يعرضني للهدم.. فكيف بشاعر “تُجرى معه الحواراتُ يعثر في مثل هذا”؟ وقد ضربت مثلا هنا في أول وأسهل جانب.. “الإملاء”، والأمر نفسه في بقية المجالات: “النحو، الأسلوب، العروض، المعلومة”.. فلك أن تتخيّل شاعرا يوظّف رمزًا معينا.. وأثناء ذلك يختلط في ذهنه برمز آخر فيستبدله.. ما رد فعل القارئ؟ سيقبل؟ القارئ، وهو يستمتع بنصك.. هو أيضا يحمل المشرط باحثا عن ورم ما في عملك.. فإن وجده.. أسقطك من اهتماماته.. وأنزلك بقدر ما كنت قد أبهرته.. أخيرا، من بالغ في الخوف.. من مثل هذا.. لن يحقق شيئًا.. ما على المؤلّف إلا أن يتريث ما استطاع.. فلا ينشر، ولا يستسهل ذلك.. وفي الوقت نفسه.. يلتزم بقول أجدادنا: “الخوّاف.. رزْقُو قْليل”!.

اقرأ أيضا:
أسعد الجبّوري”: أنا ما زلتُ منفرداً وأوحداً بكتاباتي التي لا يتبعها سوى السحرة وحاملي جينات النار.
“الجمهورية والعالم تحاور بدر الدين حربوش: رحلة في عوالم الريشة والألوان”

Visited 105 times, 1 visit(s) today

التعليقات متوقفه