دراسة في “لا أقول وداعًا”: هان كانج تفتح نافذة على تاريخ كوريا الجنوبية المظلم
“لا أقول وداعاً”: كشف محرمات تاريخية في أدب هان كانج
الناقد خالد محمود
رواية “لا أقول وداعاً” هي عمل أدبي يتسم بجو من الصمت والذاكرة المكبوتة، تتنقل فيه هان كانج بين دروب تاريخية مؤلمة وأحداث منسية يتردد الحديث عنها حتى اليوم. تكشف الرواية عن واحد من أكثر الفصول دموية في تاريخ كوريا الجنوبية، ألا وهو “مذابح جيجو”، التي أودت بحياة عشرات الآلاف من السكان المحليين، تحت مسمى “مقاتلين شيوعيين” مزعومين، في فترة ما بين عامي 1948 و1949. هذا التعتيم التاريخي يشكل القاعدة التي تبني عليها هان كانج روايتها، التي لا تكتفي بسرد وقائع العنف، بل تسلط الضوء على الآثار النفسية التي تتركها هذه الحروب على الأفراد والمجتمعات.
الموت الصامت والذاكرة الجماعية
من أولى المشاهد التي تفتح الرواية، يطرح رجل سؤالاً غامضاً على المرأة حول ما إذا كانت قد شهدت مذبحة على الشاطئ قبل خمسة عشر عاماً.
ترددت المرأة قبل أن تجيب، إذ يختلط الخوف بالذنب في مشاعرها. تأخذنا الرواية إلى تلك اللحظة المفصلية حيث يصبح الاعتراف بكسر المحرمات أداة لتفريغ ما هو مكبوت في الذاكرة.
هذا الاعتراف، الذي يبدو في البداية مجرد تلميح للآلام التاريخية، يتحول إلى صرخة في وجه نسيان تاريخي فرضه الصمت الجماعي.
تعمل الرواية على فتح نافذة على تلك الحروب المنسية التي تمرّ بلا توثيق كافٍ، مثل مذابح جيجو. فحين تسأل المرأة عن مصير جثث الأطفال الذين سقطوا في المجزرة، تجيب بالنفي، وهو إجابة تثبت أن الموت كان حاضراً لكن الذاكرة غابت عنه، وكأن البحر نفسه قد ابتلع هذه الذكريات.
أدب يتجسد في الجسد والروح
تتطرق هان كانج، من خلال روايتها، إلى ارتباطات معقدة بين الجسد والروح، وبين الأحياء والأموات. هذا التوجه الأدبي تجلى في أسلوبها الشعري المكثف، الذي يقلب القارئ رأساً على عقب ويجعله غارقاً في حيرة من أمره: هل نعيش بالفعل في وقت معاصر، أم أن التاريخ لا يزال يلاحقنا؟ هذا الصراع بين الماضي والحاضر هو جزء أساسي من روايتها، التي تتسم بالحاجة المُلِحة لإحياء الذكريات وإن كانت مؤلمة.
هان كانج، ومن خلال أسلوبها الرقيق، تعكس تعقيدات العلاقات بين البشر وتظهر كيف أن الألم يظل حاضراً في النفوس حتى وإن غاب عن الأنظار.
كما أنها تستكشف أسئلة مؤلمة مثل: هل يمكننا أن نغفر لأنفسنا على ما فعلته أيدينا في الماضي؟ أم أن الصمت هو الطريقة الوحيدة التي نواجه بها الحقيقة؟
تحليل نقدي لرواية “لا أقول وداعاً”
تتمثل القوة الكبرى في “لا أقول وداعاً” في قدرتها على أن تكون محركًا للنقاش حول مسألة الذاكرة الجماعية، وكيفية التعامل مع المآسي التاريخية التي تمّ نسيانها أو تجنب الحديث عنها.
في العمل، يبدو أن الماضي لا يندثر، بل يظل قائمًا في الحاضر، ممثلًا في ملامح الشخصيات وأفعالهم، التي تظل عالقة في أسر الدموع والدماء.
اللغة الشعرية التي تميز أسلوب هان كانج تكشف عن الصراع النفسي الداخلي لكل شخصية، وتفتح الأفق لإعادة التفكير في تأثير العنف الجماعي على الذاكرة الفردية.
لقد ارتبطت هان كانج بأدبٍ يحاكي الذاكرة الشعبية ويراعي التوترات الاجتماعية التي تصنع التاريخ، فبمجرد أن تتحرر الشخصيات من قيود الصمت، تصبح الرواية أكثر من مجرد سرد لأحداث مؤلمة، بل منبرًا للتأمل في كيفية تأثير السياسة والنزاع على حياتنا البشرية.
لذا، الرواية لا تخاطب فقط الكوريين أو تاريخهم، بل هي دعوة للعالم بأسره للبحث في التاريخ المظلم الذي قد يظل طي النسيان.
أسلوب هان كانج الأدبي وتطويره
لطالما عُرفت هان كانج بأسلوبها الأدبي الغني والمركب، حيث تمزج بين السرد الواقعي والرمزي. لغة الرواية الشاعرية تنجح في تصوير المعاناة النفسية لشخصياتها من خلال التفاصيل الصغيرة والمشاهد المؤثرة، ما يجعلها تجسد تجربة الإنسان المحطمة بفعل العنف والظلم.
الموازنة بين التجسيد الواقعي للعنف وبين الجوانب الروحية للشخصيات توفر فرصة للقارئ لاستكشاف العالم النفسي للشخصيات بشكل أعمق، كما لو أن المعركة النفسية هي الأكثر قتامة من المذابح ذاتها.
الأدب كأداة للشفاء والتحرير
في المجمل، تقدم هان كانج من خلال “لا أقول وداعاً” ليس فقط نظرة مؤلمة إلى مذبحة تاريخية، بل دعوة لفهم أعمق للذاكرة الجماعية وكيفية التعامل معها.
إنها دعوة للفهم والشفاء، كما أن هذا العمل هو بمثابة محاكمة تاريخية لأحداث قد طواها الزمن ولكنها لا تزال حية في الذاكرة الفردية والجماعية.
بهذا، تصبح الرواية شهادة على قدرة الأدب على أن يكون مرآة حية للمجتمع، وهو ما يجعلها أكثر من مجرد سرد تاريخي، بل هي وسيلة للمصالحة مع الماضي
الجدير بالذكر ان أدب هان كانج حاز على تقدير نقدي وجوائز عالمية عديدة، من بينها جائزة نوبل للآداب، تقديراً لنثرها الشعري العميق الذي يواجه الصدمات التاريخية ويعكس هشاشة الحياة البشرية.
إن مؤلفاتها تعتبر صرخات حية لتحدي السائد وكشف ما لم يُروَ من قصص، مقدمة بذلك نموذجاً جديداً من الأدب الذي يعالج الجراح ويعيد بناء الذاكرة الجماعية.
ستكون هان كانغ في ستوكهولم في غضون شهر تقريبا لاستلام جائزة نوبل للآداب.
اقرأ أيضا:
هان كانج: حائزة نوبل الآداب لعام 2024 وتحديات الصدمات التاريخية وهشاشة الحياة الإنسانية
التعليقات متوقفه