الانشغال بالمظاهر وتجاهل الجوهر: أزمة المجتمع العربي والإسلامي في مسار التقدم
محمد غنيم
في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تتزايد حملات الرقابة على اللباس وتتعالى دعوات السيطرة على مظهر الشباب والنساء وكأن السبيل الوحيد لبناء مجتمع “فضيل” يكمن في التحكم بالأزياء والتفرقة بين الجنسين في المدارس.
هذا الهوس بالمظهر العام بات يتجاوز حدود المنطق، حين يُستخدم كأداة لفرض سلوكيات وتصرفات محددة، غير عابئين بضرورة بناء أفراد واعين، بقدر ما يهتمون بتوجيههم نحو طاعة سطحية لا تعالج جوهر المشكلات التي نعاني منها.
في الأيام الأخيرة، خرج أحد المسؤولين ليعلن أن دوريات شرطة الآداب ستبدأ عملها قريباً لمنع “صيحات الشعر الغريبة” و”الملابس غير المناسبة”. ورغم أن الحفاظ على هوية المجتمع ليس بالشيء المعيب، إلا أن التركيز الحصري على الشكل الخارجي وتجاهل القضايا الجوهرية يشير إلى خلل أعمق في الأولويات. فهل حقاً يعكس مظهر الشباب والنساء صورة الأخلاق الحقيقية؟ أم أن ما يحتاج إلى تهذيب أعمق هو العقل والقيم؟
ليس جديدًا أن تتصاعد الأصوات المطالبة بفرض الحجاب على النساء وفصل الصفوف بين الطلبة والطالبات، إذ باتت هذه الممارسات انعكاساً لمنظور ضيق يسعى للتحكم في الفرد من الخارج، متناسياً أهمية بناء الإنسان من الداخل.
يرى الكثير من المفكرين أن هذا التركيز الشكلي يعبر عن ضعف في الرؤية المستقبلية، وعن عجز في مواجهة مشكلاتنا المجتمعية العميقة.
فبينما ينشغل صناع القرار بمظاهر سطحية، تتفاقم مشكلات أعمق تحتاج إلى معالجة جادة. التعليم في حالة من التراجع، الفساد ينتشر، البطالة تتزايد، والفرص تتضاءل أمام الشباب في البحث عن مستقبل أفضل. إلا أن هذه التحديات لا تحظى بنفس التركيز والإصرار الذي توجهه السلطات لتقنين اللباس ومراقبة المظاهر الخارجية.
تُعرف المجتمعات الناضجة بسعيها إلى البناء والتطوير، بدءًا من التعليم وتعزيز الوعي وحتى تحفيز الابتكار. إن غياب هذا النوع من السعي المتزن يشير إلى أزمة في الرؤية وفي تحديد الأولويات، إذ يتم تجاهل الإصلاح الجوهري لصالح قضايا لا تُعدو كونها أعراضًا لخلل أعمق. فما يحتاجه المجتمع العربي اليوم ليس المزيد من القيود، بل إطارًا يسمح للأفراد بالنمو الحرّ، وتوجيهًا يعزز التفكير النقدي ويكرس قيم التسامح والتعلم المستمر.
ان التربية، بوجهها الحقيقي، تعني بناء أجيال قادرة على التفريق بين الحق والباطل، وأن تكون مستعدة للنهوض بمجتمعها بعيدًا عن سلطة القيد على اللباس أو الشعر. التركيز على المظهر لا ينشئ أجيالًا مبدعة، ولا يُخرج من بيننا مفكرين قادرين على إعادة النظر في واقعهم واستشراف مستقبلهم.
إن أزمة مجتمعاتنا لا تكمن في اللباس، بل في مدى عمق الوعي المجتمعي وثرائه. ولأننا نعيش في عالم سريع التغيير، باتت الحاجة إلى مجتمع مرن وواعي ومتزن أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
الإصلاح لا يتحقق بإضافة قيود جديدة، بل بتعزيز فرص النمو، من خلال تطوير التعليم، وخلق بيئة عمل تتيح للشباب فرصًا تعزز كفاءاتهم.
كما أن مواجهة الفساد ومعالجة البطالة والنظر بجدية إلى المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، كل ذلك هو ما يدعم بناء مجتمع سليم يرضي الله ويحقق الطمأنينة لأبنائه، بعيدًا عن القشور. أما الانشغال بالأزياء والتوجيه الشكلي للسلوكيات فهو أشبه بترميم السطح بينما ينهار البناء من الداخل.
إذا ما أمعنا النظر، نجد أن الدين في جوهره يدعو إلى بناء الإنسان، إلى ترسيخ الأخلاق، وتحقيق العدالة الاجتماعية. لكن عندما يُختزل الدين في أشكال ظاهرية، يفقد معناه الأعمق، ويصبح مجرد أداة للتوجيه السطحي. أليس من الأولى أن نلتزم بجوهر القيم التي أُسس عليها الدين، وأن نسعى لخلق مجتمع متماسك ومترابط يقدر العلم والإبداع؟
ختامًا، إن الانشغال بالمظاهر على حساب الجوهر يبعدنا عن الأسس الحقيقية التي يمكن أن ترتقي بنا كأمة. نحن بحاجة إلى إعادة النظر في أولوياتنا، لنتمكن من السير على طريق التقدم الحقيقي، ونحقق مجتمعًا يليق بتطلعات أجيال المستقبل.
اقرأ للكاتب:
محطات مع صديقى سمير الاسكندرانى – يكتبها محمد غنيم
محمد غنيم يكتب :الالتقاء الثقافي والحضاري بين الشعوب
قيم الرياضة الرفيعة: رحلة المنتخب المصري نحو النجاح والتحديات الأخلاقية
شجاعة وتحدي: قصة نساء يصنعن التاريخ بثورتهن ضد القمع
«أخر حوار مع الراحل ».. العبقري المخرج العظيم شادي عبدالسلام
صراع المتاهات، وإقحام الأديان في السلوك البشري
قصة سمير الإسكندرانى مع الموساد والبرنامج الإيطالي
رائع جدا مقال مهم يسلط الضوء على أولويات المجتمع العربي والإسلامي، حيث تركز الحكومات على القضايا الشكلية بدلاً من معالجة المشكلات الجوهرية التي تؤثر في تقدم الأمة. إن الاهتمام بالمظاهر لا ينبغي أن يطغى على الضرورات الأساسية مثل تحسين التعليم، محاربة الفساد، والعمل على تحقيق التنمية الشاملة.
مقال مهم -يُطرح في هذا المقال تساؤل عميق حول أولويات المجتمعات العربية والإسلامية في معركة الإصلاح. إن الاهتمام المفرط بالمظاهر والهيئات يبدو وكأنه محاولة لتصحيح ما هو ظاهري دون معالجة الجذور الحقيقية للمشكلات. هل الفضيلة حقاً مرتبطة بما يظهره الإنسان من ملبس أو شكل؟ أم أن التطور الحقيقي يبدأ بتطوير الفكر والنظرة نحو التعليم، القضاء على الفساد، ومواجهة تحديات التخلف والصراعات الداخلية؟ إن الحضارة لا تنمو من خلال الحراس على المظاهر، بل من خلال العقول التي تبحث عن المعرفة، والتقدم، والعدالة.