نقد فلسفي لقصيدة “اللاشيء” لمحمود درويش

اللاشيء كحالة وجودية: البحث عن المعنى في العدم

0 72

الناقد خالد محمود

تغوص قصيدة الراحل محمود درويش في جدلية الوجود والعدم، حيث يطرح درويش مفهوم “اللاشيء” بوصفه كيانًا متناقضًا يحمل في طياته معاني متعددة، تتراوح بين العبث والقداسة، بين السلطة والفراغ، وبين الهروب والعودة. يمكن تحليل القصيدة من منظور فلسفي عبر ثلاثة محاور رئيسية: مفهوم “اللاشيء” كتجربة وجودية، “اللاشيء” بوصفه قوة سياسية، ودوره في كشف عبثية الحياة.

أولا “اللاشيء” كتجربة وجودية

في الفكر الفلسفي، “اللاشيء” مرتبط بالعدمية والوجودية. سارتر يصف “اللاشيء” على أنه الفراغ الذي ينشأ عندما يدرك الإنسان عبثية الحياة، بينما يرى هايدغر أن “العدم” هو المجال الذي يُدرك فيه الإنسان وجوده الأصيل. درويش في هذه القصيدة يستحضر هذا التصور، إذ يجعل “اللاشيء” نقطة مركزية تدور حولها التساؤلات، لكنه لا يقدمه كحالة سلبية فقط، بل كطاقة تولد من العدم. يقول:
حدَّقنا إلى اللاشيء بحثاً عن معانيه … فجرَّدنا من اللاشيء شيءٌ يشبه اللاشيءَ.”
هنا يتلاعب درويش بالمفارقة بين المعنى واللامعنى، وكأن “اللاشيء” نفسه قوة خفية تدفعنا لاكتشاف ذواتنا، لكنه يظل متجدداً، متعدداً، ومتجبرًا، مما يجعله أشبه بالقوة التي تحكم سيرورة الحياة.


ثانيا”
اللاشيء” كقوة سياسية: نقد الطغيان والتقديس

تتناول القصيدة أيضًا فكرة السلطة والطغيان، حيث يظهر “اللاشيء” كعنصر سياسي يبرر العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

يعكس درويش فكرة أن الإنسان يحتاج إلى وهم أو صنم ليمنحه الشعور بالأمان حتى لو كان هذا الصنم وهميًا أو بلا جوهر:
يحبُّ العبدُ طاغيةً لأن مَهابة اللاشيء في صنم تُؤَلِّهُهُ.”
وهذا يتفق مع أطروحة هيغل عن “السيد والعبد”، حيث يتماهى العبد مع سلطة السيد حتى لو كانت قائمة على الفراغ، لأن الحاجة إلى النظام تفوق الخوف من الاستبداد. ومن هنا تتولد حلقة مفرغة من الطغيان المتجدد، حيث يسقط الطاغية فيصبح “شيئًا عاديًا”، فيسعى العبد إلى طاغية جديد، ليطلّ عليه “لاشيء آخر”.
هذا التصور يحمل في طياته نقدًا لاذعًا للمجتمعات التي تعيد إنتاج الاستبداد، حيث يظل الحاكم متغيرًا لكن الاستبداد ثابت، ويتجدد الطاغية كما يتناسل “اللاشيء من لا شيء آخر.”

ثالثا “اللاشيء “وكشف عبثية الحياة

في نهاية القصيدة، يطرح الشاعر الفلسطيني تساؤلًا وجوديًا حول ماهية “اللاشيء”:
ما هو اللاشيء هذا اليِّدُ المتجدِّدُ، المتعدِّدُ، المتجبرّ، المتكبرِّ، اللزجُ المُهَرِّجُ…. ما هو اللاشيء هذا؟
هنا نجد صدى لفكر كامو حول العبثية، حيث يبدو أن “اللاشيء” ليس مجرد غياب، بل هو كيان خفي يسيطر على الواقع، وهو في الوقت ذاته يعكس طبيعة الإنسان التائه الباحث عن معنى في عالم بلا معنى. ربما يكون “اللاشيء” حالة من الضياع الروحي، أو مجرد وهم جماعي يحكم وعينا.
لكن درويش لا يحسم الجواب، بل يترك الباب مفتوحًا أمام القارئ للتأمل: هل “اللاشيء” هو سخرية مريرة من وضعنا؟ أم أنه طاقة مكبوتة تبحث عن الانفجار؟

نهاية القصيدة: بين العدم والإبداع

قصيدة محمود درويش ليست مجرد تأمل في الفراغ، بل هي استكشاف فلسفي لمعنى الوجود في عالم مضطرب. فهو يجرد الواقع من ثوابته، ليكشف زيف السلطة، هشاشة الأوهام، وعبثية البحث عن المعنى.

 إنها قصيدة تستحضر اللاشيء ليس كغياب، بل كقوة خفية تسير حياتنا، وتتجدد كلما ظننا أننا تخلصنا منها.

اقرأ للكاتب:
التسامح بين الأديان: حقيقة أم وهم؟
“زي الهوى”: أغنية تتجاوز الزمن بعبقرية الكلمات والألحان
حنين الشاعر وشبابه الضائع: تحليل قصيدة ‘يا جارة الوادي
التنوير ومواجهة رجال الدين: نحو تحرير العقل من القيود

Visited 11 times, 11 visit(s) today
اترك تعليق

يرجي التسجيل لترك تعليقك

شكرا للتعليق