بقلم: أ.د/ جودة مبروك محمد
ما اللغة التي تحدَّث بها آدم عليه السلام؟
ومتى بدأ الإنسان يتكلم؟
تلك أسئلة عن واقع غامض ومجهول في فجر التاريخ الإنساني، سوى بعض الإشارات في النصوص المقدَّسة.
لقد حاول الكثيرون الإجابة عنها، من خلال تأويلات لنصوص دينية حينًا، وحينًا آخر تخمينات أو ضروب من الخيال أو الاعتماد على بعض الحفريات.
إن اللغة أهم ما يميز الإنسان عن غيره، وبمقدوره أن يتخذ وسائل أخرى للتعبير مثل الكتابة ولغة الإشارة، وكذلك الكتابة بطريقة برايل للمكفوفين، وذلك بفضل خلقه على هذه الحالة، فقد أعطاه الله المخ الذي يمكنِّه من التفكير واستخدام اللغة والتفكير الداخلي الذاتي وإعطاء حلول للمشاكل التي يواجهها، كما أنه كائن اجتماعي بطبعِه قادر على التذكر واسترجاع الماضي، فقد تفوق في إنشاء أنظمة للتواصل الاجتماعي.
ويحدثنا النص القرآني عن قصة خلق آدم، وتبدو اللغة علمًا تفوَّق به المخلوق الجديد على الملائكة، قال تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة وقال أنبئوني بأسماء هؤلاء} البقرة: 31 ولكنهم نسبوه إلى القتل وسفك الدماء.
ويذهب أكثر من رأي في تفسير المقصود بالأسماء كلها، فهل هي: الأسد والرجل والفيل والكون والشمس…؟ أم أنها اللغات جميعًا؟ وهل هي لغة مكتملة بناء على التصريح بكلمة ((كلها))؟ لكن تظلُّ آراء العلماء مجرد تأويلات وافتراضات واجتهادات، لا تكاد تجزم بحقيقة هذه اللغة، سوى أنها من عند الله سواء أكانت توفيقًا أم وحيًا.
إن الأصلح للتوصُّل لملامسة الحقيقة أو الاقتراب منها ألاَّ نخرج من النص إلى التأويل الذي قد لا يصدق، رغم أنه يُفرَّقُ بين النصِّ والتأويلِ، فيبقى النَّصُّ ويَثْبتُ، ويتغيَّرُ التأويل بحسب الثقافة والسياق.
لقد ذهب بعض المؤولون مذاهب شتَّى في تحديدِ لغةِ آدم، وكان الانحياز واضحًا، فكل قوم يعتقد أن لغتهم الأقدم، فمن يرى أن السريانية هي لغة آدم استخلاصًا من أن الأنبياء الأُوَلَ مثل: نوح وإبراهيم عليهما السلام كانت السريانية، ومن يرى أن العبرية هي لغة آدم، ومن يرى أن الآرامية، وفيما روي عن ابن عباس أن العربية هي لغة آدم في الجنة، وعندما عصى ربه سلبه العربية، وتكلم بالسريانية، ولما تاب ردَّها إليه ، ورُوِيَ عن بعضهم أن أول من تكلَّم بالعربية جبريل عليه السلام، وهو الذي ألقاها على لسان نوح عليه السلام، وألقاها نوح على لسان ابنه سام ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أول من فتق لسانه بالعربية المبينة إسماعيل وهو ابن عشر سنين، وقد رُوِيَ أيضًا : أن أوَّلَ مَنْ تكلَّم بالعربية يعرب بن قحطان.
ومنهم من يرى أن آدم تحدث جميع اللغات، فرُوِيَ أنَّ أوَّلَ مَنْ وَضَعَ الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها بالألسنة كلها آدم عليه السلام، ثم تفرَّقت بين أبنائه وأهل الأرض، وتنوعت هذه اللغات بعد الطوفان.
وجاءَ عن ابنِ عبَّاسٍ في تفسير القرطبي أنَّ نُوحًا لمَّا هَبطَ إلى أسفَلِ الجُودِيِّ ابتَنَى قَريةً وسمَّاهَا ثَمانِينَ، فأصبَحَ ذَاتَ يومٍ وقد تَبلْبلَتْ ألْسنَتُهم على ثَمانِين لُغَةً إحدَاهَا اللِّسانُ العَربيُّ، الذي كان يتحدثها رجل اسمه جُرْهم ، ولما خرجوا من السفينة تزوَّج إرَم بن سام إحدى بناته، فمنهم سار اللسان العربي.
وذهب بعض العلماء أيضًا أن تعبير ((كلها)) في الآية يدلُّ على كمال هذه اللغة، أو أنه يدل على الإحاطة والعموم ، وفي هذه الآية دليل على أن اللغة مأخوذة توقيفا، وأن الله تعالى علمها آدم عليه السلام جملة وتفصيلا . وكذلك قال ابن عباس : علمه أسماء كل شيء حتى الجفنة والمحلب.
وبعضهم يرى أنها لغة بسيطة، تقوم على نظام الإشارة، فلا تعدو أن تكون لغة الإشارية بدائية، ثم تطورت عبر السنين.
إن الحديث عن لغة آدم يتعين منه تحديد المكان والزمان، حتى يكون بوسعنا وضع تصور لهذه اللغة، فمهما كانت لغة آدم، العربية أو العبرية أو السريانية… فلا يمكن بحالٍ أن تكون قد احتفظت بذاتها حتى الآن، فاللغة أيًّا كانت تمر بمراحل تطورٍ وتغيرٍ يشمل ألفاظها ومعانيها وتراكيبها، وهذا فاصل زمني طويل، يصعب أن تظل لغةٌ ما محتفظة بخصائصها إضافة إلى التغير الذي قد يحدث في الجهاز النطقي للإنسان عبر هذه الحقب الطويلة من الزمن، وما الحديث عن العربية من أنها ما زالت محفوظة حتى اليوم إنما هو لحفظ القرآن الكريم لها، فقد ساندتها عوامل دينية، أدت بها إلى أن تكون لغة حيةً، ورغم هذا حدث فيها تطور لا يخفى علينا أمره، إضافة إلى أن نحو أربعة عشر قرنًا من الزمان قياسًا إلى بدء البشرية يعد تاريخًا قصيرًا جدًّا.
اقرأ للكاتب أيضا
نشيدنا الوطني سيبقى رمزًا وتاريخًا
[…] اقرأ للكاتب أيضا هل تحدث آدم العربية؟ […]