عندما يتحدث الإنسان لغة الطيور
أ.د/ جودة مبروك محمد
لا شكَّ أن ما أوتيه سيدنا سليمان من لغة الطير يوقفنا أمام إعجاز إلهيٍّ، فبيننا وبين الكائنات الأخرى حاجزٌ من عدم الفهم، يمتدُّ حتى يصبح مستحيلاً في أن نحيط بلسانها أو رموزها من التعبير، هذا مع إيماننا بأن لها احتياجاتها من اللغات، على أنه وإن اختلفت لغات الأجناس البشرية أو الأقوام إلا أننا جميعًا نتفق في القانون العام للغة، وأهمها وحدة المعاني والدلالات، والفارق هو اللفظ أو الصوت، وبمجرد ترجمة دلالته نتوحد أو نجتمع على فهم المعاني.
ولعل أيها القارئ تقرأ معي قوله تعالى: {حَتَّىٰ إِذَا أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ}سورة النمل: 18، وقوله تعالى: {وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}سورة النمل: 16، فلا شكَّ أن هناك اختلافًا جوهريًّا بين لغة الإنسان ولغة الطيور، ليس في قانون الأصوات فحسب، أو درجة الذبذبة التي لا تتوافق مع أذن الإنسان علوًا وهبوطًا، بل في جميع مكونات هذه اللغة، وما كان معرفة سليمان بلغة الطير إلا من قبيل الإعجاز الإلهي.
ومن جانب آخر يقص علينا الخبر من معرفة سليمان عليه السلام بهذه اللغة في شأن العصفور الذي رأى بئرًا، وأراد أن يشرب منه الماء، فوجد صبيةً يلعبون، فخاف منهم ولم يقترب، إلى أن انصرفوا، لكن قَدِمَ شيخٌ كبير وله لحية ما يدلُّ ظاهريًّا على ورعه وتقواه، فاطمأنَّ العصفور، واقترب من البئر ليشرب، لكن الشيخ قذفه بحجر ففقأ عينه، فاشتكاه إلى سيدنا سليمان، فدعا الرجل إليه، وقال له ما الذي صنعته بعين هذا العصفور بدون ذنب؟ فلا بد من القصاص له بفقء عينك، فقال العصفور: ما ذنب عينه؟ إن الذي فقأ عيني هو لحيته، لأنها خدعتني، تلك محاورة بين طائرٍ وإنسان هو سيدنا سليمان، إن صحَّت هذه الرواية.
وفي العصر الحديث نجد سكان القرية التركية ((كوش كوري)) الواقعة بين جبال الأناضول على البحر الأسود يتقنون لغة العصافير، فيستخدمونها في مناسباتهم مثل الزفاف والعزاء، وقد وُضِعَتْ لها معاجمُ لغويةٌ تَضمُّ أربعمائةِ عبارةٍ، وهي عبارةٌ عن صفيرٍ يبلغ مداهُ الثلاثةَ كيلو مترات، مما جعل منظمةَ الأمم المتحدة ((اليونسكو)) تضمُّها إلى قائمة التراث الثقافي العالمي.
ولعلك تدرك –كمت يذكر أحد علماء الاجتماع اللغوي- أن بعض الحيوانات تعبِّرُ بشكل طبيعي عن الانفعالات بالبصر حينًا، والسمعيِّ حينًا آخر، تظهر في حالات الجوع والعطش والسرور والفرح والخوف والحزن والغضب، ففي حركة الجسد: تتسع حدقة العين أو تضيق، وتتحرك الأذن وتعض على نابها، وأحيانًا تلجأ إلى الهرب والاختفاء أو يقف شعرها ويتصلب جسدها، وفي صوتها نلحظ: رغاء الإبل وصهيل الفرس وحمحمته عند الجوع وشحيح البغل ونهيق الحمار وخوار البقر وزئير الأسد ومواء القطة ونباح الكلب وهدير الحمام…..إلخ. هذا كله دليل على أن لغة ما تصدر عنها للتفاهم والحوار، ولكن لا نفقه بدقةٍ ما تريد التعبير عنه.
وتستخدم بعض الحيوانات اللغة الإشارية بالجسد ففحل الأوعال (الأيل) يصدر إشارات برأسه وقرونه لقيادة قطيعه للسير وبعض الإشارات للسير فيَسيرُ جميع أفراده، وقد لُوحِظَ بعضُ جماعات النحل والنمل والقردة العليا في استخدامها لبعض الإشارات، وما نراه في السيرك من إلمام بعض الحيوانات من إشارات القائد إلا دليل على قدرة الحيوان على فهم الإشارات على الأقلِّ إن لم تكن بعض الألفاظ، عن طريق ترويضها مع قائدها.
وقد لاحظ بعض الدارسين اختلاف أصوات الحيوانات والطيور حسب المكان، فلغة العصافير في آسيا تختلف عن أوربا، مما يدلُّ على أن هناك فروقًا في اللغة.
وقد رد أحد العلماء هذه الأصوات إلى ثلاث طوائف: الأولى: أصوات فطرية يستخدمها الحيوان للتعبير عن بعض شؤونه مثل حمحمة الفرس عند رؤية صاحبه لحاجته إلى العلف، ومواء القط للتعبير عن جوعه، والثانية: أصوات القردة في اجتماعها توهم بأنها وسائل تعبير إرادي، ولكن لا تخلو من كونها لغة انفعالات. والثالثة: أصوات مركبة ذات مقاطع تلفظها بعض الطيور كالببغاء، ولكن تنتفي كونها لغة لعدم القصدية، وما هي إلا محاكاة.
لكن ثمة فرق بين طبيعة لغة هذه الحيوانات والطيور ولغات البشر، فالأولى بسيطة وتميل إلى الإشارة، والثانية معقدة، وتبقى مسافة كبيرة بين العالمين، فذلك خلق الله، ويبقى قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} سورة الإسراء: 44.
التعليقات متوقفه