«نحو تأسيس عصر دينيٍّ جديد»: رؤية نقدية
بقلم أد/ جودة مبروك محمد
يمتاز الدكتور محمد عثمان الخشت بمقدرةٍ خاصة في تحليل النصوص ورؤية مستقبلية مميزة، يتضح ذلك من خلال مؤلفاته التي انطلقت من التراث وناقشت الواقع والمأمول بقسطٍ من الحرية والإبداع، واتجه إلى نقد سيادة العقل المغلق أحاديِّ التفكير ، وتلك مدرسة لها إِرْثٌ قديمٌ مع كلية الآداب بجامعة القاهرة بدءًا من طه حسين ومذهبه الديكارتيّ القائم على الشكِّ، ومجموعة من أساتذة الجامعة الأم مثل: سهير القلماوي وزكي نجيب محمود وعبد المحسن طه بدر وغيرهم، وهذا ما يفرِّق فكرًا عن فكرٍ، ويميِّزُ وعيًا عن آخر، عقول تمرَّدت على الواقع، وفضلت ألاَّ تسجن في حقول النصوص ولا تتجاوزها، مع الوضع في الاعتبار أنه بوصفه رأيًا قابلٌ للنقد والاختلاف، لكن في حدودٍ مقاربة للأصول الفلسفية المتبعة، والمذهب الفكري الذي يحض الحجة بالحجة، ويقيم البرهان، وليست في المداخلات التي تلتقط الجمل خارج سيقاها، وتؤول العبارات في ضوء مغاير للتوجه التي وضعت من أجله، وتهدف إلى إيقاع الخصم في خضم العذر بعدم المعرفة عند الجماهير.
ونراه في كتاباته يمدح منهجية الشكِّ التي ليست ببعيدة عن الموروث الدينيِّ، ولسنا بعيدين عن الخليل إبراهيم في محاولة البحث عن الذات الإلهية، أو برسول الله سيدنا محمدٍ في تعبده في غار حراء، ومع التقدم الذي وصلت إليه البشرية يدعو الدكتور الخشت إلى تبني إصلاح مناهج التفكير، ويبقى الشك عنده مقيدًا بنتاج العقل البشري، ولا يصل إلى الوحي، مختلفًا في ذلك مع المنهج الديكارتي الذي تبناه طه حسين في كتابه «في الشعر الجاهلي» الذي أحدث ضجَّة في منابر الأزهر الشريف، فالنص القرآني وحيٌ مِنْ عند الله لا يقبلُ شكًّا، ولا يجوز فيه ذلك، أما علومُ التفسير وغيرها فإنها تحتمل في رأيه إعادة الطرح والمناقشة، فهي إبداع بشري، يجوز الاتفاق والاختلاف معها، وتقبل الاتفاق والاختلاف والزيادة والإضافة والتطوير والانطلاق في استكمال حلقاتها المفقودة، وإلا ما رأينا مفسرين جددًا أو باحثين في علوم الحديث، يضيفون رؤًى وتحليلات للنصِّ حسب النظريات الحديثة في عالم اللُّغات وغيرها، إذ يقول: «نقوم بعملية تفكيك للخطاب الديني القديم الذي أوصل أمتنا إلى ما وصلت إليه من خلل في التصورات والرؤى الحاكمة ليس للوجود والعالم فقط، وإنما للواقع المعيش» بناء على ما وصلت الأمة عليه من «حركة التاريخ ومنطق التقدم»، ويبدو أنه قرأ في مسيرة أطوار الفكر الإسلامي بعضًا من التأويلات التي زيَّفت الوعي بحقيقة الدين، فانحرفت عن القراءة الصحيحة للوحيِّ، فكان من نواتجه التطرفُ والاستبدادُ باسم الدين على يدِ جماعةٍ ضلَّت الطريق وأراقت الدماء أو سمحتْ بذلك، فالتراث ليس كله حسب رؤيته نقيًّا، فبعضه يحمل مضامين الإسلام منها بريء، فتأتي بناءً على ذلك غربلة التراث مما عَلِقَ به من الشوائب، فنصل إلى حيث قال: «وهنا تصبح الأرض ممهدةً لتأويلٍ جديدٍ يأخذ بأسباب الاجتهاد، ويأخذ بأسباب العصر».
ولعلَّ هذا العمل الموسوم بـ«تأسيس عصر ديني» من أشهر الكتب التي أثارت جدلاً وصخبًا إعلاميًّا، في تناوله في سياق مؤتمر داخل الأزهر الشريف، فيدعو إلى تأسيس رؤية جديدة تحمل العقل إلى الحرية المقتبسة من الوحي، وليس مما دار حوله من آراء أو تأويلات التقطتها بعضنا بشيءٍ من التقديس، وهو في هدفه لا يبعث دينًا جديدًا، في الأصل هو مجموعة من المقالات التي نُشِرَت تباعًا في جريدة «الوطن»، ويحمل مضامين مهمةً في محاسبة الأفكار والرؤى وجواز إعادة التفسير والتأويل، ويفرق بين ما نوعين من التراث: ما مردُّه إلى الوحي، وما مرجعُه إلى العقل، فالأول الوحي، ويبقى الأصل والمصدر الذي يتَّسِمُ بالثبات، والثاني العقل الذي يُوصف بالمتحوّل، وتجب مراجعته بناء على الوحي والسياق التاريخي.
والحق أنه لا ينقد أو يجرّح في كل ما هو تراثي، بل يقف أمام ثوابت ونراه مرحبًا بها، ولكن خلافه مع العقل في تمييزه بين نوعين من مصادر الدين؛ الأول الذي ما زال على نقائه دون أن تدخل فيه اليد البشرية، والثاني ما دخلته أحيانًا الأغراض المختلفة فيه بحثًا عن المنفعةِ الخاصة، وتكالب على مصلحة الوطن والمواطن مما حملتها بعض حركات الإصلاح، يقول: «والجديد مع حركة الإصلاح الديني الحديثة منذ القرن التاسع عشر أنها أنتجت أجيالاً وجماعات تتكالب من الداخل على أمتها ووطنها، وهم شركاء أصليون في حالة الضَّعفِ التي تعيشها».
وقد تبين حسب ما أرى أن إشكال تلقي الكتاب تكمن في العنوان، فقد أثار الحفظة بما يحمله من دلالات، فبعض ألفاظه مع طرحنا مقولةً «الكتاب الجديد هو خطوة نحو الحضارة»، وإن اختلفنا مع رؤية الفيلسوف فلا يعني القطيعة الفكرية، فإنه لا يحمل بندقية أو صاروخًا، تقابلنا كلمة «تأسيس» وتدور في فلك الإنشاء وقد تحمل معاني التنصُّل التامّ والقطيعة عن الماضي، وهذا لا يجوز أو يتطابق مع الدين القائم على الوحي في صورة النصوص المقدَّسة التي يؤمن بها الدكتور الخشت ذاته، أما التعبير بـ«عصر ديني» فالعصر لا يكونُ خالصًا إلى الدينية المحضة، فأعتقد أن الفكرة مبالغٌ فيها، فلا يوجد عصرٌ دينيٌّ وآخر غير دينيٍّ، ولا يتحقق العصرُ الدينيُّ في كلِّ الأشياء، إلا إذا التقى مع الأفكار التي تصل الدين بكل شيء في الحياة، فتصبح الحياة هي الدين والدين هو الحياة، ونعت الدين بـ«جديد» في إطلاقه «عصر ديني جديد»، إذا ما وُصِفَتْ «دينيّ» فيميل من إحدى الجهات إلى اختراع دين أو اكتشافه أو استنباطه، ومعروف عن الأديان أنها وحيٌ أو رسالةٌ سماويّةٌ، فهل هذا يعني أنه يبحث عن متغيرات دينية في عالم بعيد عن صلته بالرسالة أو منقطعة عن الماضي.
إلا أننا ندرك من الوهلة الأولى أن الدكتور الخشت لا يريد ما حمله العنوان مِنْ دلالات صارخة كهذه، وإنما يتَّخذُ المجاز وسيلةً للتعبير، ونرى فكرته تحمل نُبلاً في صدق نيته على تخليص الشعائرِ القائمة على الاعتياد والممارسة وتبرئة الدين مما خالطه من أوهام البشر حيال تأويلهم الزائف للنصوص.
إن ما يمرُّ به عالمنا العربي في حاجة إلى مليون بعقلية الدكتور الخشت، فقبل كل معاناة نعيشها نعاني الفكر العقلي والأمية الثقافية، ولنا في كل دور العلم دعوة بأن نشجع أصحاب العلماء في تقديم رؤاهم، ونختلف مع الفكرة، ولا نحاكم صاحبها.
نعم نتمنى وجود الكثير من العلماء مثل الدكتور الخشت ، ولكن لابد قبل ذلك توفير البيئه التي تقدر وتحترم هذه العقليات العظيمه
أحسنت تناول الموضوع دكتورنا الفاضل
[…] «نحو تأسيس عصر دينيٍّ جديد»: رؤية نقدية […]