الدكتور جودة مبروك يكتب.. (الفذلكة) في وضع الاختبارات العامة
تستخدم كلمة (الفذلكة) في اللهجة المصرية وفي بعض اللهجات العربية مثل السورية، وتعني الفلسفة بمفهومها السلبي، وتعود إلى الفصحى وهي بالذال، وإن نطقت بالزاي في اللغة الدارجة، وتعني إجمال ما فُصِّل من الكلام، وهي مأخوذة من الفعل (فذلك)، وهي منحوتة من التعبير: (فذلك كذا وكذا كراسة مثلاً)، وكانت في القديم ترتبط بدلالة إيجابية، فهي من أساليب العرب الفصحاء، ولكن في العامية (فزلكة) بالزاي.
وتعد لفظًا معبَّأ بإيحاءات كثيرة أغلبها توصيف لحالة نفسية لشخصٍ يتباهى ويفتخر ويستعرض قواه وعضلاته، وقد وصلت (الفذلكة) منذ زمنٍ بعيد إلى الوسط العلميِّ، فأذكر في مراحل التعليم الأولى رأيت تحدي الأسئلة بين السادة المعلمين فيما بينهم لإثبات النبوغ والمعرفة والإدراك بما لا يُلمُّ به الآخر، وكانت (الفذلكة) تستهوي كثيرًا منهم، وتأتي في الغالب عند الإحاطة بمعلومة جديدة يتصوَّر أحدهم أنها موضوع يثبت قوته.
ولقد شاهدنا (الفذلكة) رأي العين في بعض الاختبارات الماضية في الثانوية العامة، وتحديدًا في امتحان اللغة العربية، ففي سؤال النحو مطلوب إعراب بعض الكلمات من بينها ((أيضًا، ومعًا))، وهي كلمات تتكرر كثيرًا في الكلام دون وقفة معها من ناحية الإعراب أو التحليل الصرفي خاصة في هذه المرحلة، ولم تكن مدار دراسة أو تعليم.
وشاعت (الفذلكة) في اختبارات هذه الأيام بين أبنائنا، وذلك يعود إلى توسعة توسعة نطاق مدونة السؤال، بمعنى أن الامتحان يقتبس فقرة من نصوص غير مضمنة في الكتاب المدرسي، وتأتي أسئلة تتفق حسب رأيهم (ولا تتفق حسب رأينا) مع عناصر المنهج، ويصاب أهل الخبرة في حيرةٍ من أمرهم في التحديد بدقة الإجابة الصحيحة في أحيان كثيرة من هذه الأسئلة، ووجه الإشكال هو أن الأسئلة اليوم صارت جميعها من هذا النوع وهو صورة الامتحان، وهو الاختيار من متعدد. أضف إلى ذلك أن النص المقتبس أحيانًا يكون مطوَّلا ويحمل أفكارًا فرعية كثيرة، مما يستعصي على الطالب التمكن في الوقت المحدد من القراءة الواعية له، فيجيب بعجلة وبدون تركيز.
ويزداد الأمر تعقيدًا عندما يتسلل إلى مسائل ترتبط بسياق الجملة، والسياق لمن درسه ليس سياقًا داخليًّا فقط، بمعنى أنه يفهم من داخل النص بما توحيه الجمل والعبارات، والسياق داخلي وخارجي، وإذا عرفنا الداخلي وهو المأخوذ من المدونة أو النص، فإن الثاني وهو الخارجي يصعب الإمساك به، صحيح أنه ليس مستحيلاً، ولكنه معقدٌ أحيانًا، بهو يرتبط بحالات مختلفة للمتلقي للنص والمناسبات والحالات النفسية وغيرها، فلا مفرَّ إذن من وجود اختلاف في تصور الإجابة الصحيحة وتحديدِها بدقة.
وما زالت طريقة تقييم الطلاب وآلياتها محل نظر ودراسة، خاصة مع دخول الاختبارات عن بعد، فهل هي الاختيار من متعدد فقط، أم من الممكن أن تتجاوز ذلك إلى أنماط أخرى.
إن الأصل في وضع الاختبارات هو التنوع في الأسئلة، بحيث يستطيع أن يقيس الكثير من المهارات والمعارف التي حصلها الطالب، فتحمل وزنًا نسبيًّا لمحتويات المقرر على مدار العام الدراسي، فامتحان اللغة العربية مثلاً يقيس مهارات لها طبيعتها الخاصة تستند على بعض المحاور الرئيسة مثل قياس درجة الاستماع والتحدث والكتابة والتفكير، ويتمكن الطالب بعد دراسة المقرر من امتلاك خبرات علمية تعود إلى الأفعال التالية: يعرف يدرك يميز يوازن يتمكن ينشئ يدقق ينقد يستوعب يقارن ينمي يصمم…. وغيرها، وتقيس ما يعرف بمخرجات التعلم بحيث تشمل الربط بين محتوى المقرر مع أدوات التقييم ، وهي محددة عند بعض التربويين في ثلاثة: تعليمية، ومهارات وقدرات.
إن بعض العلوم والمعارف ليس السبيل إليها في مجملها بأسئلة الاختيار من متعدد، فتلك تتطلب تعبيرًا وثروة لغوية نقيس بها مهارة الطالب في الكتابة والإنشاء، وبعضها يحتاج استقراء دون إعطائه خيط الإجابة، وبعضها تحتاج إلى قياس الفكر الناقد عنده، فأفضل وسيلة لبعضها هو السؤال المقالي، وإن لم يكن ذلك متاحًا في ظل التقييم عن بعدٍ، أو يكتنفه شيء من الصعوبة فيجب على واضع الامتحان أن يجتهد في وضع الأسئلة التي تقيس المهارات السابق ذكرها.
إن مصر تعيش هذه الأيام نهضة في جميع المستويات، ولا بدَّ أن يكون التعليم ونظام الامتحانات من هذه السبيل، فلا بد من أن تتكاتف الجهود وتستشار الخبرات وتعقد الحوارات حتى نخرج بالطريقة المثلى التي تناسب أبناءنا وترتقي بهم حتى نرضي طموحاتهم.
فهل يمكننا أن نرقى بالأسئلة حتى تتسم بالعلمية وتقطع عند المعرفة الشك أو التررد حتى عند المختصين، ونعني بالعلمية تحديد القصد حال الإلمام بالمحتوى الدراسي لدى الطالب.
اقرأ أيضا للكاتب:(الأمن المائي) مؤتمر علمي بدبي أمل في الخروج من فقر المياه
التعليقات متوقفه