الأطلال القصيدة التي سيخلدها التاريخ
بقلم أ.د/ جودة مبروك محمد
عندما سُئِل موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب: ما الأغنية التي كنت تتمنى أن تلحنها؟ قال: لو لحنت الأطلال في حياتي فقط لكفى.
وجاء تأكيد رأي عبد الوهاب عندما اختارت صحيفة لوموند الفرنسية عام 1999م قصيدة الأطلال من بين أفضل مئة عمل فني وأدبي شكَّلت ذاكرة القرن العشرين، جاء هذا في استطلاع أجرته الصحيفة لاختيار روائع القرن العشرين الفنية والأدبية، واختيرت جنبًا إلى جنبٍ مع السيمفونية التاسعة لبيتهوفن, والرابعة والخامسة والسادسة لتشايكوفسكي، وذلك فخر للفن المصري.
تلك وجهة نظر في قصيدة صُنِّفتْ كذلك في الآداب العربية على أنها من أفضل مائة قصيدة ، وقد لحَّنها رياض السنباطي وغنتها أم كلثوم عام 1966م، بعد أن شهدت خصامًا بينهما، فقد اختلفا على لحن المقطع الأخير، وأصرَّ الملحن على رأيه إلى أن وافقت أم كلثوم عليه، أما عن سبب الخلاف فأم كلثوم ترى أن قفل القصيدة مرتفع، وهي تريده منخفضًا.
القصيدة للشاعر إبراهيم ناجي من ديوان (ليالي القاهرة) وقد رحل عن عالمنا عام 1953م، وقد ظلمته الحياة، فتعددت النظرة إليه، فيراه الشعراء طبيبًا، ولا علاقة له بالأدب، ويراه الأطباء شاعرًا والطب عنده ضعيف، وأنصفه الفن عندما أقدم رياض السنباطي بتلحين الأطلال لسيدة الغناء العربي أم كلثوم، فعلا نجم الشاعر، واكتسب شهرةً بين الخاصة والعامة على مشارق الأرض ومغاربها، لكن للأسف شدت بها أم كلثوم بعد وفاته بنحو ثلاثة عشر عامًا من وفاته، وقد أوكلت أم كلثوم للشاعر أحمد رامي اختيارها، وتغيير ما يمكن تغييره.
والقصيدة المغناة أبيات مجموعة من قصيدتين: الأولى الأطلال، وهي التي سميت بها، والثانية الوداع، فقد أخذ من الأخيرة سبعة أبيات تبدأ من قوله:
هل رأى الحب سكارى مثلنا
وتنتهي بقوله :
وإذا الأحبابُ كلٌّ في طريق
من حيث الكلمات جاءت قريبة إلى المستمع، لا جفاء فيها ولا صعوبة، فتمتاز بالوضوح، وقد غيَّر أحمد رامي البيت الأول فقد كان:
يا فؤادي رحم الله الهوى
فصار:
يا فؤادي لا تسأل أين الهوى
لما يحمله لفظ (رحم) من آثار نفسية غير منسابة للغناء.
وقد استمعت إلى قصيدة الوداع التي تتضمن (هل رأى الحب سكارى) الأبيات السبعة في الأطلال بتلحين الفنان محمد فوزي للمطربة نجاة علي، وقدِّمت في منتصف الخمسينيات، أي قبل ميلاد لحن السنباطي.
يعود (الأطلال) بلفظها إلى القديم حيث البكاء على الأطلال، لكن أطلال ناجي مختلفة، فهي أطلال نفس كواها الحب، وحرقها الشوق، فقد أفصحت بها قريحته بعد تعثره في تجربته العاطفية، فقد سافر لدراسة الطب، وله محبوبة يعشقها، وعندما عاد اكتشف زواجها من غيره، وتحدث المفاجأة، فقد طرق بابه رجل ذات ليلة، يريد أن ينقذ حياة زوجته التي هي في حالة الولادة، فذهب معه، وعندما اقترب من السيدة رآها حبيبته، فألف قصيدته الأطلال، وأنشد يقول:
يا فؤادي رحم الله الهوى كان صرحًا من خيالٍ فهوى
اسقني واشرب على أطـلاله واروِ عني طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب أمسى خبراً وحديثاً من أحاديث الجـوى
لست أنساك وقـد أغريتنـي بفمٍ عـذب المنـاداة رقيـق
ويـدٍ تمتـد نحـوي كـيـدٍ من خلال الموج مدّت لغريق
فمن حيث الكلمة أبدع إبراهيم ناجي الطبيب الدارس للطب النفسي جراء تجربة ذاتية، ومن حيث الغناء تألقت أم كلثوم بشكل كبير، مما كتب لها النجاح بشكل كبير، أما اللحن فقد دار نقاش بين نقاد الموسيقا حوله، فمعظمه كان يعتمد على القرار وهو الصوت المنخفض، حتى منتصف القصيدة تقريبًا، وهذا ليس من منهجية الأغنية التي تتغنى بها أم كلثوم، بما عُرِف عنها من قوة الصوت، فرأى بعضهم أن رياض السنباطي كان بإمكانه استثمار ذلك الصوت، وكونه اعتمد على القرار فهذا تقليص لصوت أم كلثوم.
ويرى آخرون أن قوة الصوت ليست معيارًا لكون الملحن يلجأ إلى الإفادة به كاملاً في كل جزء من الأغنية، فهذا يرتبط أكثر بالكلمات ودلالتها والحالة النفسية المراد التعبير عنها.
وتبقى الأطلال ملكًا للذوق المصري والعربي، فقد وصلت إلى رجل الشارع العادي رغم أنها بالعربية الفصحى، ومن أجمل ما يحكى أن جمعًا من المثقفين في حضرة الفنان محمد عبد الوهاب، وأخذوا يتناقشون فيما بينهم عن العمل الذي سيخلد على مرِّ التاريخ، فإذا بهم تتعالى أوصاتهم ويجمعون على أن الأطلال هو ذلك العمل، وعبد الوهاب جالس يستمع له دون حراك، فالتفتوا الى عبدالوهاب يحاولون تعديل ما قالوا, لكن المفاجأة أدهشتهم حين وجدوا دموع عبد الوهاب تنساب من تحت نظارته, ويعلن: قلتم الحقيقة، الأطلال فعلاً هي الأغنية التي سيخلدها التاريخ.
التعليقات متوقفه