أخلاقيات التصويب اللغوي

707

بقلم أ.د/ جودة مبروك محمد

الجديد في اللُّغة، منه ما هو مقبولٌ وموافِقٌ للقياس، ومنه ما هو يبعد بها عن ذوق العربيَّة وقياسها ومنطقها، ويقف العلماء عند ذلك أكثر من موقف؛ فبعضهم يرى خطَأه، ومنَ الضروريِّ بمكانٍ أن نلتزم العربيَّة الفصحى، ولا يقبل حينئذٍ ما هو مستجدٌّ ومولَّد، وبعضهم يرى أنه لا ينبغي لنا الالتزامُ بالفصحى، ولنا أن نتحدث كيفما شئنا، دون التزام بقاعدة لُغويَّة أو قانون، وهناك منهم من يقفون موقفًا وسطًا، فيرون قبولَ الجديد بشروطٍ، وقد يُبالغ أحد هؤلاء في دعواه، متعصِّبًا لمذهبه، على نحو ما يرى الحريري.

ولقد اهتمَّت مجموعة كبيرة من العلماء بمناقشة الأخطاء، عند عامة المجتمع وخاصتهم، وكان من أوائل هؤلاء ثعلبُ في الفصيح، وابن دستوريه في كتابه: كتاب الكُتَّاب، ومحمَّد بن يحيى الصُّوليُّ في كتاب: أدب الكتاب، وابن قُتيبة في كتاب: أدب الكاتب، وعلي بن حمزة البصريُّ في كتاب: التنبيهات على أغاليط الرواة، وحمزة الأصفهانيُّ في كتاب: التنبيه على حدوث التصحيف، وأبو أحمد العسكريُّ في كتاب: شرح ما يقع فيه التحريف والتصحيف، والحريريُّ في كتابه: درَّةُ الغوَّاص، وأبو بكر محمد بن الحسن الزبيديُّ في كتابه: أخطاء أهل الأندلس في القرن الرَّابع الهجريِّ؛ سمَّاه: لحن العامة، وابن مكي الصقليُّ في أخطاء أهل بلدة صقليَّة في القرن الخامس سمَّاه: ثثقيف اللسان وتلقيح الجَنان، ووضع الإمام أبو الفرج عبد الرحمن بن علي المعروف بابن الجوزي كتابًا في لحن العامة في بغداد في القرن السَّادس الهجريِّ؛ كما رأينا كتبًا كثيرة في التخطئة والتصويب في العصر الحديث.

ويقول أحد العلماء عن هذه الكتب إنَّها: أصبحت تُسيءُ إلى اللُّغة بدل أن تخدمَها؛ وذلك أنها بتزمُّتِ أصحابها، وكثرةِ تخطيئاتهم غير المصيبة عمومًا، باتت تُنفِّر أهل العربيَّة من لغتهم، إذ إن مَن يطَّلع على بعض الكتب الآنفة الذكر؛ وخاصة المتأخِّرة منها، يهولُه كثرة الألفاظ والأساليب التي تخطئها ــــ وأكثرها صحيحٌ لا غبارَ عليه ــــ فيحسَب أنه في مأمن من الخطأ، بل في كثرته، خاصة أن تلك الكتب تسلِّط تخطيئاتها على ما كتبه كبار الكُتَّابِ والأدباء، فكيف به وهو المبتدئ بتعلُّم العربيَّة، غير المتضلِّع في أساليبها؟ وقد يؤدِّي به الأمر إلى النُّفور من العربيَّة وكرهِها”.

ويرى أنه على حكومات الدول العربيَّة أن تُصادر بعض كتب التخطيئات اللُّغوية المتأخِّرة؛ لما تخطِّئُه من أساليب فصيحة صحيحة. وهذا في واقع الأمر عصبيَّة من نوع آخر.

ولعلَّ الأمر الذي بات ملاحظًا أن معاجم العربيَّة وقفت عند حدود الزَّمان والمكان، فلم تُثْبِت ما هو خارج نطاق الجزيرة العربيَّة، وما هو بعد المائة الثانية من الهجرة لعرب الأمصار، والمائة الرابعة لعرب البوادي، وإذا ثبت أن اللُّغة ظاهرة اجتماعيَّة، فإنها تتطوَّر بتطوُّر المجتمع؛ لتواكب التقدم الحضاري، وما ينجم عنه من وجود ألفاظ كثيرة، في الطِّبِّ والهندسة والاقتصاد والتِّجارة والزِّراعة… وعليه فإن وجود ألفاظ جديدة في اللُّغة شيء ضروريٌّ، وإلا كان الاعتماد على اللغات الأخرى عن طريق التَّرجمة الحرفيَّة الركيكة بالطبع أو التَّعريب دون وجود شخصية المنطق اللغويِّ العربيِّ، وأعتقدُ أن هذا افتقدناه عندما دخلنا عصور التَّنوير، وأظلَتنا الحضارة الأوربيَّة بمستجداتها، حتَّى قصُرت همتنا في ملاحقة وضع المصطلحات التي تُعبر عنها.

وهناك أمانة في أعناقنا، ليست فقط في تصحيح الأخطاء والتنبيه عليها، ولكن عدم تخطئة المولَّد على عمومه؛ حتى نضمن لأبناء مجتمعنا أن يلحقوا بركب تطوُّر الحضارة الإنسانيَّة، وليس هذا بِدعًا، فلقد رأينا التطوُّر الكبير في معاني بعض المفردات إِبَّانِ ظهور الإسلام، مثل: الصلاة والمنافق، والكافر والصوم والحج… وفي العلوم العربيَّة، نحو: النَّحو، الفقه، والتفسير، والمنطق… واستطاعت العربيَّة أن تكون لغة ثريَّة، فأثَّرت في هذه العلوم، وتأثَّرت بها، وهذا ما يدعونا الآنَ لنجعل اللُّغة طيِّعةً للعلوم المختلفة والمستجدات الاجتماعيَّة، بما يحفظ كيانَها.

 

Visited 7 times, 1 visit(s) today

التعليقات متوقفه