أ.د/ جودة مبروك محمد
يختلف مقام خطاب الحرب عن الألوان الأخرى من الخطابات، فيعلو درجاتٍ عن السياسي المعروف، حيث يلمس واقعًا مؤثرًا في مصير الأمة، وغالبًا ما يوجّه إلى أكثر من فصيل أو نوع، فهو في الوقت الذي يتجه نحو الجبهة الداخلية حيث الشعب والقوات، يراعي البعد العالمي وخطاب الآخر، سواء مع أو ضدّ، فهو الحماسة للوطن، والإقناع للعالم، ويكون محددًا بألفاظ وجملٍ لا تحتمل التأويل أو الخداع، وغالبًا ما تكون صادرة عن إدارة البلاد أو القيادة العليا للقوات المسلحة.
وفي ملحمة السادس من أكتوبر واجهنا نوعين من الخطاب: الأول صوت الإذاعة المصرية، والثاني خطاب الرئيس السادات في السادس عشر من أكتوبر 1973، أي بعد تحقق النصر أمام المصريين والعالم.
اختلفت نبرة الصوت عبر الإذاعة المصرية في ظهر ذلك اليوم، عندما بدأ إذاعة البيان الأول مسبوقًا دائمًا بـ((هنا القاهرة…))، بأداء الإذاعي الكبير حلمي البلك، وتوقيت إذاعته في الثانية والربع بعد الظهر، جاء بكلمات حماسية يقول: «هنا القاهرة.. جاءنا الآن البيان التالي من القيادة العامة للقوات المسلحة: قام العدو في الساعة الواحدة والنصف من بعد ظهر اليوم، بمهاجمة قواتنا في منطقتي الزعفرانة والسخنة في خليج السويس، بواسطة عدة تشكيلات من قواته الجوية عندما كانت بعض من زوارقه البحرية تقترب من الساحل الغربي من الخليج، وتقوم قواتنا حاليًا بالتصدي للقوات المغيرة))، من الواضح أن البيان ليس من نسج الإذاعة المصرية، وإنما هو من إملاءات القيادة العامة، ويبدو فيه خطة التمويه والتعتيم على ما يجري على القناة، وتتوالى البيانات التي تخاطب الجماهير رويدًا رويدًا لتعلن عن تحرك القوات الجوية المصرية واشتباكها مع العدو وعودة جميع الطائرات سالمة إلى مواقعها، ثم تعلن عن اشتباك بريٍّ مع قوات العدوّ، لكن أهم بيان صفقت له الجماهير هو الخامس بصوتٍ رنان للقدير (حلمي البلك) يقول: ((هنا القاهرة.. جاءنا الآن من القيادة العامة للقوات المسلحة البيان التالي: نجحت قواتنا في اقتحام قناة السويس في قطاعات عديدة، واستولت على نقاط العدو القوية بها، ورفع علم مصر على الضفة الشرقية للقناة.. هنا القاهرة)). كان الشعب طيلة سنواته الست العجاف يلتمس ذلك فيها النصر، ولطالما قام بتنظيم مظاهرات للمطالبة بالأرض المحتلة وتحقيق الغلبة على العدو الصهيوني.
أما عن الخطاب الثاني فظهر الرئيس السادات في زيه العسكري يخاطب الجماهير والأمة العربية متحدثًا عن معجزة اقتحام خط برليف وتكبيد العدو خسائر فادحة، وغيرها من كلمات النصر والفخر التي هزَّت مشاعر المصريين الذين يلتفون حوله في مجلس الشعب، وعلى محطات الإذاعة وشاشات التلفزيون.
كان الرئيس على قناعة تامة بأن خطابه هذا سيدخل التاريخ وأن انتصار الحرب سيدخله قلوب الجماهير وكأنه حقق المعادلة الصعبة بعد صراعه مع محبي جمال عبد الناصر، فبيوم السادس من أكتوبر أصبح السادات الرئيس الحقيقي لمصر، فالمعركة حسمت موقعه على عرش البلاد، يظهر ذلك في قوله: ((حاولت أن أفى بما عاهدت الله وما عاهدتكم عليه قبل ثلاث سنوات بالضبط من هذا اليوم، عاهدت الله وعاهدتكم أن قضية تحرير التراب الوطنى والقومى هى التكليف الأول الذى حملته ولاء لشعبنا وللأمة، عاهدت الله وعاهدتكم على أن لن أدخر جهدا ولن أتردد دون تضحية مهما كلفنى فى سبيل أن تصل الأمة إلى وضع تكون فيه قادرة على دفع إرادتها إلى مستوى أمانيها)).
كما أنه على يقين أنه يخاطب الأمة والعالم، يقول: ((مناسبا أن أجيء إليكم اليوم أتحدث معكم ومع جماهير شعبنا ومع شعوب أمتنا العربية وأمام عالم يهمه ما يجرى على أرضنا)) ولأنه يوسع دائرة مستمعيه يربط بينم الحرب والسلام فيقول: ((وهى قضية الحرب والسلام، ذلك لأننا لا نعتبر نضالنا الوطنى والقومى ظاهرة محلية أو إقليمية … فإننى أريد أن أدخل مباشرة فيها أريد أن أتحدث معكم وسوف أركز على نقطتين: الحرب والسلام.)) ، ويقول: ((إننا حاربنا من أجل السلام ٠٠ حاربنا من أجل السلام الوحيد الذى يستحق وصف السلام ، وهو السلام القائم على العدل)) .كما كان مناسبًا أن يرسل خطابًا إلى الرئيس الأمريكي من خلال كلمته، يقول: ((لقد فكرت فى أن أبعث إلى الرئيس ريتشارد نيكسون بخطاب أحدد فيه موقفنا بوضوح ولكننى ترددت خشية إساءة التفسير ولذلك قررت أن استعيض عن ذلك بتوحيد رسالة مفتوحة إليه من هنا ، رسالة لا يمليها القول ولكن تمليها الثقة ، رسالة لا تصدر عن ضعف ولكن تصدر عن رغبة حقيقية فى صون السلام ودعم الوفاق ، أريد أن أقول إنه بوضوح إن مطلبنا فى الحرب معروف لا حاجة بنا لإعادة شرحه ، وإذا كنتم تريدون معارضة مطلبنا فى السلام فإليكم مشروعنا للسلام)).
لقد حقق الخطاب هدفه، سواء الإذاعي أو رسائل السادات إلى الشعب والعالم، وسيبقى هذا اليوم يوم عزة وكرامة وبريق أمل لتحقيق مآرب الشعب، فهو مصدر إلهام للوطنية للأجيال القادمة.
التعليقات متوقفه