أ.د/ جودة مبروك محمد يكتب التَّعلُّم : من الإلزام إلى الممارسة
سعت الشعوب العربية منذ بدايات التعليم النظامي إلى أن يكون إلزاميًّا خاصة في المرحلة الأولى، وهي الابتدائية، وذلك كان حلمًا يراود المثقفين والأدباء والمتنوِّرين في العصور السابقة، حتى إنّ أول قرارٍ اتخذه الدكتور طه حسين بعد أن أصبح وزيرًا للمعارف في عام 1950م هو مجانية التعليم، وقال: العلم كالماء والهواء.
وقد نافست جميع الطبقات الاجتماعية في الحصول على أعلى الدرجات العلمية من الشهادة الابتدائية حتى درجة الدكتوراه بهذه الصورة المجانية على نفقة الدولة المصرية، بل إن كثيرًا من أبناء المجتمع أُوفد في بعثات علمية إلى أوروبا وغيرها على نفقة جامعات الدولة، مما يؤكّد الرعاية التامّة لحصول الفرد على التعليم، وعلى أفضل ما يمكن، ونظرت المؤسسات إلى أنّ ما تقدمه لهؤلاء من نفقات هو استثمار للعقول، فإذا ما رجعت من سفرها قدَّمت خدماتها للوطن، وقد رأينا نماذج كثيرة في جميع التخصصات في الأدب واللغة الدكتور طه حسين والدكتور رمضان عبد التواب والدكتور محمود فهمي حجازي ورفاعة رافع الطهطاوي، وفي العلوم الدكتور علي مشرفة والدكتور أحمد زويل وغيرهم.
وقريب من هذا منذ ثلاثة أعوامٍ فقد تحمَّلت الدولة المصرية نفقات (التَّابلت) للثانوية العامة على مستوى الجمهورية، لجميع الطلاب، وقد يصل عددهم إلى قرابة السبعمائة ألف طالب كل عام، إضافة إلى البنية التحية التي تستوعب تلك الرقمنة من منصات ومواقع على الإنترنت وشبكات وقنوات تعليمية وغيرها، وهذا في وسط أجواء صعبة تحتاج إلى توفير وترشيد، لكن لم تبخل الدولة المصرية على أبنائنا، وأتاحت كل هذه الخدمات مجانية بأمر رئاسي، سواء نجحت التجربة أم أنها ما زالت تحتاج إلى تحسين.
ولا شكّ أن مطالعة الدول الأخرى يجعلنا نستشعر بأنواعٍ جديدة من التطوير والتحسين وأن تكون هناك مسالك أخرى لإفراز ناتج جديد خلف تلك السياسات التعليمية.
يذكر المفكر الإماراتي الأستاذ الدكتور محمد عبد الرحمن رئيس جامعة الوصل عن النظام التعليمي في فلندا، متسائلاً: تشير الإحصاءات الخاصة بمؤشر التنمية البشرية للأمم المتحدة إلى أن النظام التعليمي في فنلندا يتبوأ المركز الأول عالميًّا، فالطلاب الفنلنديون يحرزون في الاختبارات الدولية درجات أعلى مما يُحرزه أكثر الطلاب في دول العالم، فكيف حقَّقت فنلندا هذا النجاح للعملية التعليمية؟
فيصل إلى قناعات تربوية، وهي أن التعليم في فنلندا بلا اختبارات وبلا واجبات، فهو يمتاز بالمرونة والسهولة، فهناك تحول إلى الإمتاع للأطفال والكبار، ولا يصيبهم بالتوتر والقلق من أمور التقييم والدرجات، أو أن يجعل هدفهم مشتَّتًا نحو تحصيل النقاط، ويبدأ التعليم في المراحل الأولى بنظام إعطاء المعلومات على شكل مهارات لألعاب شيِّقةٍ، تجذب الأطفال وترغِّبهم في الحصول على أكبر قسط من ممارسة جوِّ التعلُّم.
يعتمد التعليم على مساحةٍ من الرغبة فيه والاقتراب منه بعدم عقد اختبارات يمكن أن تسبِّب قلقًا للطلاب، وإتاحة مساحة من الود والحب والإقبال من قبل مكوِّني التواصل التعليمي، مما يسمح بمزيد من إقبال الطلاب على ممارسة التعلم داخل الصف من خلال الأنشطة المختلفة والمتنوعة، مع إعطائهم فرصة لهذه الأنشطة التي تتقن النظريات والقوانين بصورة مباشرة وغير مباشرة، حتى يقيموا مهارات التعلم ويصلوا إلى الهدف المنشود؛ هذا كان له مرود في أن تحقِّق فنلندا هذه الطفرة عالميًّا في هذا المجال الشائك.
إن هذا يعطينا فرصة في أن نهتم بجوهر التعليم والتعلُّم والطريقة التي ندرِّس بها أكثر من طرق التقويم ونظام الدرجات و النقاط، وأن يقلل المسؤولون من أحاديثهم وتصريحاتهم عن أساليب الاختبارات، وأن يركزوا على المحتوى والمضمون للمقررات الدراسية، وهي التي تترجم في النهاية إلى خبرات علمية يفيد منها الطلاب.
التعليقات متوقفه