ثنائية الحضور والغياب والتناص في رواية كيميا.. دراسة نقدية

1٬035

قدمت الكاتبة أمل درويش، دراسة نقدية تحت عنوان ” ثنائية الحضور والغياب والتناص في رواية كيميا” حيث بدأت في كتاباتها بعرض نبذة عن نظرية التفكيكية ونشأتها ومدي مخالفتها للمدرسة البنيوية التي استحوذت علي الإهتمام الأكبر كمدرسة من مدارس النقد الأدبي.
وأوضحت الكاتبة تطبيق النظرية التفكيكية من خلال دراسة رواية كيميا للكاتب وليد علاء الدين، وكيف تجلت ثنائيات الحضور والغياب في هذه الرواية، حيث عبّر علاء الدين عن هذه التجربة الشعورية مستخدمًا التناص مع أشعار جلال الدين الرومي وشمس التبريزي، والتي تم نشرها ضمن سلسلة رؤي نقدية، والتي صدرت عن مؤسسة النيل والفرات للطبع والنشر بعنوان “نظرية التفكيكية بين مؤيد ومعارض”.

تقول الدكتورة أمل درويش في دراستها، بأن الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه يُعد الأب الروحي للفلسفة التفكيكية إذا ما أطلقنا عليها هذا الاسم، فقد تشكلت فلسفة نيتشه حول ركيزتين أساسيتين “موت الإله ورفض المرجعية والمركزية للكون” و “العود الأبدي ومعناه التكرار اللا نهائي للتاريخ”

وهذا يعود إلى تفكير نيتشه الثوري الذي يرفض الأفكار الموروثة ولا يقبلها كثوابت، ويبحث في ما وراء الأشياء وينقب عن المغيّب منها والمهمش والمسكوت عنه، ورغم عدم نجاح نيتشه في فرض هذه الفلسفة إلا أنه ظهر فيما بعد من يروج لهذه الأفكار مع إضافاتهم الخاصة كما فعل هيدجر الذي قدم منهجًا خاصًا به من خلال تفسيره للكينونة التي قسمها إلى قسمين أطلق عليهما اسم ثنائية المعرفة والذات العارفة ويتغير كلاهما بتغير عوامل الزمن ومروره، وبذلك تكون عملية الفهم قابلة للاختلاف دائمًا.

ومن خلال ذلك أسس جاك دريدا مرتكزًا جديدًا للتفكيكية يتمثل في لا نهائية المعاني، “كل معني نصل له في قراءة وتحليل النص الأدبي ليس معنى ثابت ويمكن إرجاؤه لحين ظهور معنى جديد” وهو ما يمثل فكرًا معاكسًا للمدرسة البنيوية التي تعتمد علي ثبات المعني واستقراره وتؤمن بأن المعني موجود في النص وتمنح السلطة المطلقة للنص، وهذا كله تم هدمه بعد الحروب العالمية التي راح ضحيتها آلاف البشر فأثار موجة حنق لدي الناس واتجه بعضهم للإلحاد وتشتت أفكارهم، وهدموا في ذلك كل الثوابت القديمة وعادوا يؤمنون بأفكار نيتشه التي رفضوها سابقًا.

وتطرقت درويش الي “ثنائية الحضور والغياب في رواية كيميا” قائلة، شكك التفكيكيون في العلاقة بين الدال والمدلول، فبينما كانت فاعلية القراءة عند البنيويين قائمة علي العلاقة بين الدال والمدلول أو علي ما سمي (ثنائية الحضور والغياب) حيث يمثل الدال حالة الحضور في النص، بينما يمثل المدلول حالة الغياب، ودور القارئ استحضار هذا المتصور الذهني الغائب واستكمال النص الناقص، لأن الصلة قائمة بين حاضر هو الدال (الكلمة) وبين غائب وهو المدلول (الصورة الذهنية) والحصول على هذا الغائب مقيد بالنص.

ولكن جاك دريدا كان له رأي مغاير لذلك، ورؤية مختلفة للعلاقة بين الدال والمدلول بنى عليها نظريته في تحليلها: “المعنى ملتبس دائمًا، إنه أبدًا ليس هناك، حيث يوجد النظام الدال، وكلما غلف النص المعنى أكثر في بنية علاماته أصبح المعنى مراوغًا أكثر. ويرى دريدا أن المعنى مؤجل باستمرار في لعبة الدوال في اللغة، ويجب دائمًا الوصول إلى المعنى لكن الوصول إليه لا يحدث أبدًا.”

وعودة لكيميا أفادت امل درويش، ان الرواية تبدأ باختلاط مشاعر البطل ما بين الخيال والواقع حيث يستيقظ علي برودة تسلقت أطرافه وجمدتها، فظن تلقائيًا أنها تعود لانطلاق جهاز تبريد الغرفة في عمله دون توقف مما جعل الغرفة تشبه الثلاجة، وطلبه استدعاء فني التكييف لتصحيح الحالة، ولكنه لدي وصول العامل يدرك بأن الغرفة حارة وما كانت هذه البرودة سوى برودة تسللت إلى روحه خلال تجولها في المنام.

واستطردت دريش، يحكي لنا الكاتب المشهد الذي رآه ولا ندري بعد هل هو من نسج خيالاته وتأثره بقراءته لرواية بنت مولانا أم أنه كان حُلمًا من أحلامه المعتادة التي سيصفها فيما بعد فنراه يقول: “ما زال نور الغرفة مضاءً. رجل وامرأة وسط حقل بهيج تحت شمس نهار مبتسمة. ابتسامة المرأة تشبه لوزةً متفتحة. ينحني أمامها رجلٌ يلتقط النورات من لوزاتها الجافة. بينهما تقف طفلة ضيّقت عينيها قليلًا لتتفادى الشمس، وتحدق في عيني الرجل الذي لا يظهر إلا جانب وجهه، ولا شك في أن الطفلة من زاويتها تلمح شيئًا مختلفًا في نظرة الرجل؛ شيئًا أثارته لوزة القطن في عيني المرأة. أخذني لون الأفق الأزرق في عمق الصورة حيث ينتهي الحقل. الأزرق في العمق يمنح الأخضر مسحة حزن تتعتق في صدرية الرجل السوداء، وفي انحناءته الدرامية على الأغصان. ينحني في مقدمة المشهد ولدٌ يرتدي الزي القاتم نفسه، بينما يغطي رأسه بغطاء قماشي له درجة الأخضر المشع من الحقل. تنكسر القتامة في لون فستان المرأة البرتقالي وبلوزة الطفلة المخططة بلون البرتقال نفسه على خلفية بيضاء. تتزن ألوان اللقطة.”   هذا النص المعتق المرصع بالدوال والمدلولات التي تتنوع ما بين الحضور والغياب، شكلت لوحةً تسرد نشأة كيميا وصباها، فهذه اللوزة المتفتحة في ابتسامة المرأة دالة على الاطمئنان  والسعادة ولكنها ذات مدلول آخر هنا فهي تدل على كيميا

الفتاة التي نمت من رحم الأم وتفتحت لتصبح طفلة صغيرة، وأما لون الأفق الأزرق (والذي من الطبيعي أن يكون لون الأفق، وقد يحمل دلالة على النقاء والشفافية)  فما هو سوي مدلول على عباءة مولانا الرومي الزرقاء كما وردت في رواية بنت مولانا. ثم اللون الأخضر الذي يتمثل في رداء الولد، ففيه إشارة إلى أحمد بعباءته الخضراء

الذي كان أول من تحدث مع كيميا عن الرومي في رواية بنت مولانا، وله دلالة أخرى تشير إلى علاء الدين بن جلال الدين الرومي الذي سيرد ذكره في الرواية فيما بعد. يقول جاك دريدا: “ليس هناك من نص متجانس، هناك في كل نص حتى في النصوص الميتافيزيقية الأكثر تقليدية، قوى عمل هي في الوقت نفسه قوى تفكيك للنص، إن هناك في النص قوى متنافرة تأتي لتقويضه.

وتجزئته.”  وهذا يفسر استغلال الكاتب لهذه البؤرة من الخط الفاصل بين الوعي واللا وعي، الحلم والواقع لكي تجري فيها حواراته مع كيميا وعلاء الدين فيما بعد.

واستكملت الدكتورة أمل درويش دراستها النقدية حول “رواية كيميا” قائلة، ونعود للرواية حيث يفسر لنا الكاتب ما يحدث للبطل وهذا الالتباس الذي أصابه وأصاب القارئ معه في بداية الرواية فيقول الكاتب: “ليست الأحلام غريبة عليّ، فأنا أحد الحالمين الكبار، أو قل أحد القلة الموعودين؛ تجنبًا لاستخدام كلمة (المصابين) بالأحلام الصافية. والحلم الصافي – Lucid dream  ليس مرضًا، إنما ظاهرة يتعرض لها بعض الناس، وأنا لحسن الحظ أو لسوئه واحد من هؤلاء. هي عملية معروفة تقع بين اليقظة والنوم.”
إن الكاتب ما زال متأثرًا برواية بنت مولانا، وبحالة الرؤى التي كانت تراود كيميا في صغرها، وهذا مدلول كلمة الحلم الصافي، والمعنى الدال لكلمة الصافي في اللغة وهو من الصفو والصفاء ولكنه يحمل دلالات أخري منها الصوفية والتصوف والتحليق في عوالم خفية، يختلط فيها الواقع بالخيال واليقظة بالنوم يفسرها الكاتب على لسان البطل فيقول: “علميًا؛ لأن اللعبة أعجبتني، نجحت في تطوير تلك المقدرة يمكنني الآن مزج الحلم بالواقع المحيط بي، عبر ما أختاره من مفرداته”  ثم يشرح البطل كيف يطبق هذه الحالة ويستحضرها في حياته، ثم نجد الكاتب الذي تقمص دور الراوي والبطل يقول: “قبل أن أنهض بجسدي، منحتُ الرجال والنساء والأطفال حرية الحديث التي حرمتهم منها من قبل، رفعتُ صوت التليفزيون فمنحوا الغرفة حياةً، وإن كانت بلغة لا أفهم منها كلمة واحدة.”   لا شك أن الكاتب لم يكن يقصد المعنى الحرفي للكلمات “المعنى الحاضر” أو الدال الذي يقصد به الشخصيات التي يبثها التليفزيون عبر شاشته، ولكن حملت هذه الكلمات دلالات أخرى وهم أبطال روايتي قواعد العشق الأربعون وبنت مولانا اللتان تشغلان بال الكاتب في رحلته للبحث عن كيميا ومعرفة ما حدث لها قبل وفاتها ومكان قبرها.

“تنشأ مشكلة ثنائية الحضور والغياب من اختلاف دلالة التيقن وعدمه في مفردة الاختلاف، فتعارض الدلالات التي يقوم عليها الاختلاف، وحضور الدال وتعدد مدلولاته، وغياب أو تغييب بعضها، والمتوالية المؤجلة من سلسلة العلامات اللانهائية كل ذلك يؤكد أنه ليس هناك حضور مادي للعلامة، هناك لعبة اختلافات وحسب وهناك سعي وراء المُغيّب في اللغة والمعاني بشكل لا نهائي وهذا يدفع إلى الحد من هيمنة فكرة الحضور.”

ويتنقل بنا السرد في هدوء وروية نحو الأحداث المتلاحقة في عقل البطل ما بين أحلام وواقع يعيشه ويسرده كيوميات. ونعود للنص حيث يقول البطل: “في سكون الليل، بدا كالزعقة صوت أزيز الكهرباء إثر ضغطة إصبعي على الزر الذي أشع بالضوء الأحمر. تحيلت الكهرباء وهي تسري كالبرق وصولا إلى الكتلة المستكينة في موضعها منتظرة أمرًا بالصعود أو الهبوط. فزعتُ لصدى تلك الزنة التي أحدثها عزم تحرك الصندوق من مكانه؛ تشبه إفاقة جثة هامدة…”   إن الكاتب يصف بسردٍ أدبي بليغ سريان التيار الكهربائي في الدائرة الكهربية ليعطي الأمر للمصعد وقوة الدفع اللازمة للحركة لكي يصله ويستقله للهبوط من الطابق الموجود به غرفته.. ولكن لهذا النص دلالة أبعد ومعنى غائبًا آخر يفسره السرد فيما بعد.. فهذه الضغطة من إصبع البطل ما كانت سوى طرقة على صندوق الدفن (قبر علاء الدين بن جلال الدين الرومي) التي أفاقت جثته الهامدة في مرقدها. ليتجلى له في حلم جديد يعيشه البطل متأرجحًا على حافة الواقع والخيال. ويبدأ الكاتب سردًا جديدًا الراوي يتحدث فيه بصوت علاء الدين ولكن البطل هو الذي يكتبه قبل أن ينساه فور استيقاظه من هذه الغفوة.

ومرةً أخرى يختلط المعني الحاضر بالغائب في حديث البطل في مذكرات الرحلة حيث يقول: “هل كانت غمامة آيا صوفيا هي غمامتي الفاتنة؟ لا أعرف. إلا أنها لم تقل عنها فتنة وهي تحتضن الكنيسة في حنو كبير، بينما يتدفق صوت الواعظ من مكبرات الصوت في مسجد السلطان أحمد من الجهة المقابلة..”  ورغم حضور المعنى الدال على تناغم الأديان وتجاورها في سلام؛ إلا أن المعنى الغائب هو ما حملته قصة كيميا في رواية بنت مولانا، حيث ولدت لأب مسلم وأم المساجد فكان المسلمون يتخذون جزءً من الكنيسة ليصلوا فيه، مسيحية، وكانت القرية تخلو من كذلك في أثناء طفولة كيميا كان الأب كريستوم يرعاها ويعلمها الكتابة ونصح والدها بإرسالها إلى الكنيسة في قونية لتتعلم هناك، بينما كان أحمد يعلمها الصلاة والإسلام،وتعهد تعليمها الكتابة خلال غياب الأب كريستوم (كما ورد في رواية بنت مولانا).

ونعود للرواية وكلمات البطل التي يسرد فيها انطباعه عن تعامل الرومي مع كيميا من خلال قراءته لرواية بنت مولانا فيقول: “عالجتُ مشاعر الغضب التي تسربت إلى نفسي تجاه جلال الدين بسبب مصير كيميا؛ فكرت: هي، حتى الآن، مجرد شخصية روائية تعلقتُ بها لأن البريطانية

موريا مفروي صورتها في عذوبة نجح في الاحتفاظ بها الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم. لابد أن الأمر كان مختلفًا. لا يمكن لجلال الدين الرومي أن يكون بهذه القسوة. تعاطفت معها كذلك لأنها لم تكن قط شخصية محورية في كل ما قرأتُ عن مولانا من كتب. كثيرون لم يأتوا على ذكرها من الأساس. ثم جاءت مفروي لتضعها في بؤرة الحدث، وتصورها وكأنها ماتت عشقًا في شمس التبريزي. يا له من مصير لطفلة لم تكمل عامها الثاني عشر؛ تهيم عشقًا بشيخ جاوز الستين! مفروي عين استشراقية أعمتها شمس الرومي الساطعة.”

يبدو من النص أن الفكرة الرئيسية التي تدور في ذهن الكاتب هي فكرة البحث عن قبر كيميا ومعرفة ما آل إليه مصيرها، وتأثر الكاتب برواية بنت مولانا ما زال قائمًا يشغل حيزًا من تفكير الكاتب في رحلة البحث عن الحقيقة. غير أن المعنى الغائب هو فكرة زواج القاصرات التي ما زالت تعاني منها مجتمعاتنا وخاصة المجتمعات النائية والبعيدة عن العواصم والتي تسود فيها سلطة زعيم القبيلة الذي يزوج الفتيات ما إن تصل لسن البلوغ دون مراعاة فارق السن مع الزوج المختار، ودون مراعاة حالة الفتاة وما إن كانت تحتمل أعباء الزواج وتكوين أسرة وهي للتو ما زالت تخطو أولى خطواتها خارج محيط الطفولة وبراءتها.
ومما يؤكد فكرة الكاتب وهذا الهاجس الذي يشغل عقول القبيلة منذ ميلاد الفتاة وهو زواجها نجد هذا الحديث الذي جري على لسان الطفلة التي تجلت في خيالات أحلام البطل (وهي كيميا) تقول له: “يقولون عني مجنونة. أبي يخشى أن لا يتزوجني أحد. وأمي تريد إرسالي إلى أخوالي في قونية لتضعني في الدير. لكن أبي لا يحب أن يقول الناس: وضع المسلم ابنته في دير. وأنا لم أفعل شيئًا يا عم، فقط أسأل….”

وها هو يلقي على لسان البطل بعض كلمات يؤنب فيها الرومي على ما فعله مع كيميا فيقول: “ألا تشوش ذكرى كيميا عليكم راحتتكم كما تشوش عليَّ إعجابي بهذا الشاعر المجنون؟ تمتصه وتدس مكانه كراهية أشعر بها تنمو بين جوانحي. أقاومها قدر طاقتي عساني أكتشف بين الصور قبرًا  للروح المغدورة.”  فما زال الكاتب يكن مشاعر الغضب تجاه هذا السلوك مع الفتيات والاستهانة بهن وبمشاعرهن.

إشكالية أخرى تطرق إليها الكاتب وليد علاء الدين في هذه الرواية وهي المتاجرة بالدين؛ فمنذ القدم كان هناك تجار يتكسبون من الدين، يروجون له كبضاعة يتاجرون بها لينالوا منها الربح الوفير من أشخاص تتوق إلى الانطلاق في ملكوت الخيال وينعمون براحة العقول حينما تغيب عن الواقع بكل همومه. وصفهم الكاتب خلال زيارة البطل لقبر مولانا فقال: “في حضرة مولانا رأيت أقومًا لم أرهم من قبل. كأنهم خرجوا للتو من حكايات ألف ليلة وليللة…”  ثم يعود ويتساءل: “من هنا الميت ومن الحيّ؟ من أطلق الحمائم البيض من أقفاص أجسادها لتحلق على صدى رجفات قلوبها دائرة على محور حنين خفي إلى الانفلات من الأسر، أم من يتلظون شوقًا إلى مجرد انفراجة يمر من خلالها بصيص نورٍ يضيئ ولو قليلًا عتمة القلب والروح؟ من اخترق الزمان والمكان بزمان ومكان صنعهما بنفسه، بجنونه، وصاغ جنونه شعرًا مسّ قلوب القاصي والداني، أم هؤلاء الحائرون الذين يغص بهم المزار؟”

 

إن المشكلة ليست فقط فيمن يتاجر بالدين ليلقى المنفعة، ولكنها في نفوس المتلقين، الذين يعانون ضعف الإيمان ويتعلقون بأي مسكن يهدئ من آلامهم، ويسكنها ليشعروا ببعض الرضا، والاكتفاء دون الحاجة للشعور بتأنيب الضمير على التقصير، وخاصة البسطاء قليلي العلم والمعرفة الذين يشكلون الفئة المستهدفة عند هؤلاء الشيوخ. وفي نفس السياق ومن خلال الصوت الذي جاء للبطل كهاجس يحدثه فيقول: “وهل هناك تجارة مربحة كتجارة الحجيج؟ ألوف مؤلفة.. ملايين.. نقود.. نفوذ.. بشر يأتون أفواجًا من كل بقاع الأرض إلى مولانا.. صورة العشق الكبرى.. فمن بحق ما تؤمن به، تكون كيميا ليسمحوا لها بخدش هذا الصنم؟”  إن المتاجرة بالدين ما زالت قائمة حتى الآن وإن اختلفت صورها، فبينما يذهب البعض للشيوخ لينالوا البركة،فهناك مثال آخر جديد لم يكن موجودًا سابقًا وهم شيوخ الفضائيات والإعلام وبرامج التواصل وهؤلاء نوع جديد ومتطور من المتاجرة بالدين ولكن بصورة تساير تطورات العصر الحديث.

التناص في رواية كيميا:

إن التناص ينتسب إلى الخطاب Discours  ولا ينتسب إلى اللغة ولذا فإنه يقع ضمن مجال اختصاص عبر اللسانيات Translinguistique  ولا يخص اللسانيات.  وبالتالي فهو يتوافق مع نظرية التفكيكية التي تهمل مرجعية اللغة وتشكك فيها. وعلى ذلك فالتناص يتيح للنص الانفتاح على معاني ودلالات جديدة. ولنبدأ في دراسة التناص في رواية كيميا:

كان للتناص حضورًا جليًّا في رواية كيميا بشقيه الفكري والحرفي؛ فمنذ قراءتك للعنوان سوف يتبادر إلى ذهنك شخصية كيميا تلك الفتاة الرقيقة التي تربت في كنف الرومي، ثم زوجها لصديقه شمس التبريزي، وهذا ما اتفقت عليه روايتي قواعد العشق الأربعون وبنت مولانا، وقبل أن ندخل في أحداث الرواية يستهل الكاتب وليد علاء الدين روايته بكلمات لجلال الدين الرومي يقول فيها:

“الليلة الماضية، في المنام  ..  رأيتُ شيخًا في حي العشق  ..  أشار إلى بيده: اعزم علي الالتحاق بنا.” ليتبعها الكاتب بكلماتٍ يرد فيها علي الرومي “ولكنني قررت قبل ذلك.. أن أصنع ثقبًا .. في الجدار الغليظ .. لتحلق روح كيميا” وكأنه يدخل في ديالوج مع الرومي ويرد على كلماته.

ليس هذا فقط، فقد نبه الكاتب إلى ملاحظة مهمة من خلال السرد وهي تشابه اسمه مع اسم ابن الرومي علاء الدين ولكن بالعكس، وهذا ما ذكره في السرد حين رأي على كنكمرآة الحمام عبارات مكتوبة بلغة لا يعرفها تقول: “سَن وليد علاء الدين سِن، بَن علاء الدين ولد تر، سَن بِنم ترستر.”  هذه الكلمات التي عرف معناها فيما بعد وعرف ترجمتها التي تقول: “علاء الدين ولد، وليد علاء الدين”  وخلال الأحداث نجد تحركات البطل وهو يتقمص شخصية علاء الدين أو أن شخصية علاء الدين تتلبسه لترشده إلى شيئ ما، أو بمعنى أدق لتخبره أن يبحث عن قبر كيميا ليمنحها بعض الاهتمام بعدما سقطت من التاريخ.

ومن المدهش أن الكاتب سهّل علينا الأمر وأوضح لنا فكرة التناص إذ ذيّل روايته بفهرس يسجل فيه المقاطع المأخوذة من الأعمال الأخرى التي سماها اقتباسات بعضها منقول كما هو وبعضها منقول بتصرف في إشارة إلى استخدامه أسلوب التناص الحرفي، ومن هذه الاقتباسات أشعار للرومي مأخوذة من المثنوي يصف فيها رقصة السماع فيقول: “رفرفة طائر نصف مذبوح ملطخ بدمه يتمرغ في الوحل”   ومن أقوال التبريزي للرومي: “ادخل في السماع، فإن الذي تنشده سيزداد”

ثم ينقل لنا ما يدعم فكرته ويؤكدها عن التجارة بالدين فيستحضر هذا النص: “قبل ذلك كان شمس يجلس عند باب المختلى ويجعل مولانا في داخل الحجرة، وكلما شاء أحدٌ أن يلقى مولانا  كان يقول له: ماذا أحضرت، وماذا تعطي مقابلًا لكي أظهره لك؟ مع الوقت انتقلت المهمة إلى حسام؛ بحنكته بستانيًا في حديقة أبي، كان يرى الثمار في الشجرة قبل أن يلقي البذور في التراب.”   من كتاب “بحثًا عن الشمس”، نينوي ص477 ثم يستكمل الحديث بمقتطف من كتاب “المولوية بعد مولانا” ص 52 : “صار الذين يريدون رؤية أبي يلجؤون إلى جلبي ويتواجدون في مجلس شمس الدين، وإذا أراد أحد المريدين رؤية شمس فعليه أن يقدم عشرة أو عشرين ألف درهم، وإذا ما قدم المال المطلوب فإنه يتكلم إلى شمس أو إلى مولانا.”

واختتمت الكاتبة امل درويش دراستها النقدية قائلة “اختار الكاتب فكرة أدب الرحلات ليستطيع من خلالها إضفاء أسلوب المتعة والتشويق على السرد الذي قد يلتبس على القارئ في البداية تحديد مساحات الحلم وتمييزها عن الواقع، ومعرفة الشخصيات الحقيقية من الشخصيات الخيالية التي ميّزها الكاتب ووصفها وصفًا دقيقًا، وعمل الكاتب على فكرتين هامتين أراد إلقاء الضوء من خلالهما على مشكلتين تتواجدان وتستمران مع الزمن ولا تتغيران وهما: المتاجرة بالدين والتكسب منه، واستغلال ضعف إيمان البعض ورغبة الآخرين في التقرب من الله دون معرفة الطريق الصحيح، والمشكلة الأخرى وهي اعتبار النساء من ممتلكات الرجل يتصرف فيها كيف يشاء، هذه المشكلة التي ما زالت تنتشر في المجتمعات الفقيرة والبدائية وتندرج تحتها مشكلة زواج القاصرات التي مثلتها حكاية كيميا، وقد نجح الكاتب في عرض وجهة نظره دون المساس بمكانة جلال الدين الرومي؛ فما زال الكاتب يستشهد بمقولاته ويتحدث عنه وعن تأثره به رغم ضيقه وحنقه منه بسبب ما حدث لكيميا كما أنه وضّح أن الرومي نفسه لم يكن يتاجر بالدين ولم يتسفد من دعوته لكن من حوله هم من كانوا يستغلونه”

Visited 36 times, 1 visit(s) today

التعليقات متوقفه