نعم ..العقل السلفى خطر
نبيل عمر –
هل ثمة علاقة تحت الجلد بين قتل القمص أرسانيوس بالإسكندرية، ومنع إدارة محل كشرى لطفلة وأمها أن يأكلا قبل مدفع الإفطار، وفتوى بيع الطعام لكافر فى رمضان المنشورة فى جريدة ليبرالية لها دور تنويرى واضح فى مجتمعها؟
ربما هى مجرد مصادفات، لكن وقوعها بالتتابع فى زمن متقارب هو الذى جعل منها حالة استدعت السؤال وفرضت على المجتمع كله أن يشحذ عقله ويجيب.
وكما يقولون الشيطان يكمن فى التفاصيل، والتفاصيل تشى بأشياء قبيحة وموجعة وخطيرة جدا، لا تحرض فقط على قتل مصرى هنا أو تغتال حق مصرية هناك، وإنما تهدد مجتمعا ينبش الصخر ويحاول الفكاك من سلاسل حديدية تحجزه عن بناء جمهورية جديدة قوامها العدل والعقل والعمل الجاد، وتشده إلى جمود وتواكل وركود يباعد بينها وبين مكانة تعادل اسمها وتاريخها وما صنعه قدماء المصريين فى واحدة من أهم حضارات الدنيا على كوكب الأرض. قد يكون قاتل «أبونا» الشهيد أرسانيوس وديد على كورنيش الإسكندرية مريضا نفسيا أو معتوها أو فاقدا أهليته لأى سبب أو حتى دون سبب، لكن لماذا اختار قمصا ليكون ضحيته ولم يختر أول عابر سبيل صادفه قبل أن يلتقى بالقمص، سواء كان رجلا أو امرأة، شيخا أو عجوزا شمطاء أو شابة غير محجبة أو متشردا مثله؟
هذه أسئلة بسيطة للغاية، تحاول تشخيص خلل التفكير فى عقل مريض نفسى..
1 ــــ زى القمص دال على ديانة لابسه، فهل قصد المجرم أن يقتل مخالفا له فى الدين، فى لحظة غضب أو اضطراب نفسى مقرونة بغليان دم لم يستطع السيطرة عليها؟
2 ــــ هل عثر القاتل على سكين حاد فى كوم زبالة مصادفة فأخذه، وحين فاضت عليه مشاعر الغضب الكامنة فى نفسه العليلة استخدمه؟، وهل السكين الذى يُلقى فى الزبالة أصلا كان حادا، وهل تركته عوامل التعرية على حاله دون أن يصيبه الصدأ؟
3 ــــ هل الستون عاما التى قضاها القاتل من عمره لم تهدئ من عصبيته وغضبه، ولم ترس به إلى تصرفات رجل مسن عركته الحياة وافرغت انفعالاته الهائجة؟
تأخذنا هذه التساؤلات أخذاً إلى درب وحيد وهو أن الجريمة لم تكن مجرد مصادفة عشوائية، وقطعا لا أقصد أنه خطط ودبر ونفذ عامدا قتل القمص أرسانيوس دون غيره لأسباب شخصية، وإنما أتحدث عن مصادفة عقلية وافقت لحظة العنف عنده، أى ترى فى الإنسان المخالف فى الدين عدوا محتملا يجوز قتله (وخلاص)، يعنى هى كده ولا تسألونى لماذا اخترته دون معرفة سابقة؟
أى أن دوافعه عامة مرتبطة بمفاهيم ونمط تفكير، ولا تخص نمط علاقاته الشخصية، قطعا هو عقل سلفى تربى وتعلم وعاش حياته كلها مقتنعا أن المخالف له فى دينه كافر بشكل أو بآخر، وحين اختل عقله وتحكم فيه جنون القتل، قادته هذه الصورة المسيطرة على ذهنه إلى سفك دم يعرف دينه ولا يعرفه شخصيا.
نأتى إلى طبق الكشرى الأزمة، وبالرغم من غياب الدم والسكين وطلقات الرصاص وماء النار، إلا أنه أكثر خطورة فى بيان حالة التديين التى تضرب عددا كبيرا من المصريين المسلمين، لأن عنفها مطمور ويبدو سهلا مثل تحية الصباح، ويمكن الاعتذار عنه أو إنكاره أو اللف والدوران حوله، وبالمناسبة التديين غير التدين، التديين حالة عصبية انفعالية خليط من الغضب والتشدد غارقة فى المظاهر والشكليات والتلقين، التدين حالة عقلية فيها تدبر وتفكير منظم يغلفه التسامح والعفو والمحبة وتحركه المفاهيم الكلية للدين.
وللأسف حالة التديين لها الغلبة ، إذ أُنفق عليها عشرات المليارات من الدولارات لما يقرب من نصف قرن، لتمويل جمعيات دينية ومشايخ جرى استقطابهم وتدريبهم، وطبع ملايين من شرائط الكاسيت والفيديوهات والسيديهات والكتب، وكلها وزعت مجانا محملة بأفكار شديدة التطرف عن علاقة الإسلام بالحياة والآخر، فى الوقت الذى انهار فيه التعليم وركن العقل العام إلى الحفظ والتقليد دون النقد والتحليل، وانتشر السلفيون من القرى والمراكز إلى عواصم المحافظات والمدن الكبرى، بل إنهم تمركزوا فى الإسكندرية قاصدين وأد ما لها من تراث حضارى مع الأجانب والآخر وحضارات البحر الذى تطل عليه والثقافات المتنوعة، وبالفعل نجحوا فى تشويهها بالعشوائيات، أفكارا ومساكن وتصرفات.
وطغت ظاهرة قراءة القرآن فى المحال وسيارات التاكسى والميكروباصات والموتوسيكلات، وقراءة القرآن عمل صالح ومحبب للنفس المؤمنة، لكن القراءة لها شروط حددها الله فى كتابه الكريم، أن ننصت ونتدبر ونتمثل، وليس ونحن نأكل فى مطعم ونحادث بعضنا بعضا أو نعمل على سيارة تحيط بنا ضوضاء وكلاكسات وزيطة الشوارع، ويزعمون أنها بركة، بينما لو دققنا النظر لأدركنا أنه استماع عابر ينقصه الاحترام الواجب والالتزام بشروط الإنصات.
من هنا جاء فعل إدارة محل الكشرى، لا إفطار للزبائن إلا بعد أذان المغرب، لم يتصوروا وجود مخالف فى الدين بينهم، جائع وموجود فى الشارع لسبب ما، ربما سيدة لها رخصة من الله تعفيها من الصوم لأيام أخر، وأصلا هل ثمة إكراه فى الدين، هل أمرنا الله أن نلزم الناس كرها بأن يتصرفوا وفق مفاهيم دينية فى محل عام خاضع للقانون وليس للفتاوى؟، أليس من الأسهل على المحل أن يغلق أبوابه أو يعلق فى مدخله لافتة للطلبات الخارجية فقط.
قطعا فتوى الجريدة بعدم بيع الطعام للكافر فى شهر رمضان كان خطأ رهيبا غير مقصود، خطأ دال على عقلية المحرر الذى مرره ، وربما لا يؤمن بهذه الفتوى أصلا ولا يعمل بها، وعدم توقفه عندها راجع إلى حالة يراها ومحيطة به وتتحرك بحرية.
نعم نحن فى خطر، خطر هذه البيئة وهذا العقل، ولا يقل تهديده عن الإرهاب، لأنه يهيئ له رافدا محتملا.
التعليقات متوقفه