التّناص والعجائبيّة في قصّة “الثّعبان” للكاتب منير عتيبة

564

أ. د درية فرحات
الجامعة اللبنانيّة

منذ أن وجد الإنسان على سطح هذه البسيطة وهو يبحث عن وجوده وحقيقة هذا الكون، بل إنّ الوجود “الإنسانيّ على هذه الأرض وجود مغترب في الأصل، وإنّ الاغتراب هو أزمة الوجود الإنسانيّ منذ الأزل، فمنذ أن هبط آدم وزوجه إلى الأرض، والإنسان يسعى إلى محو اغترابه ومواصلة البحث فيها عن بديل لفردوسه المفقود “لذلك لجأ الإنسان إلى حياة التّامل، أي السّمو في التّأمل واستغراق الذّهن في التّفكير، أي إنّه يلجأ إلى التّفكير العميق حول موضوع ما محاولاً اكتشاف جوانبه كافة؛ وانطلق الإنسان باحثاً في الكون والوجود والحياة. ولا يقتصر التّأمل على البحث في حقيقة الوجود وعلى جدلية الموت والحياة، إنّما يمتدّ إلى آراء وتأملات في الحياة والغوص في الذّات الإنسانيّة، وفي هذا الإنسان الذي هو “غاية الغايات والمرامي كلّها من الوجود”.

ومنير عتيبة لم يكن بعيدًا عن هذا البحث في كتاباته التي ينشد فيها البحث عن الإنسان، وعن صراعه في هذا الوجود، فنبحر معنا في قصّته “ثعبان”، لنصل إلى مبتغاه فيها ومراده الذي يريد الوصول إليه.

“ثعبان” قصّة من المجموعة الموسومة بـ “حاوي عروس” للأديب منير عتيبة، وعنوانا القصّة والمجموعة القصصية يشيران إلى أبعاد متعدّدة، ويحقّقان وظائف العنوان ومنها هنا التّشويق والوظيفة الإغرائيّة، فالعنوان مجموعة من العلامات اللسانيّة يمكن أن توضع على رأس النّص لتحدّده، وتدلّ على محتواه، ويساعد ذلك على إغراء الجمهور المقصود بقراءته. وما يميّز العنوان أنّه يُخفي أكثر مما يُظهر، وهو بذلك يثير المتلقي ليستحضر الغائب في العنوان.

وهكذا يترك الكاتب للمتلقي/ القارئ المجال مفتوحًا ليكتشف المخبأ في النّصّ. وتسهم العتبة النّصيّة التّمهيديّة للقصّة بأخذ القارئ إلى عدّة عوالم عجائبيّة وتناصيّة.

ففي القصّة عالم عجائبيّ وكما يذكر الدّكتور حمداوي فإنّ الأدب الفانطاستيكي/ العجائبي يستند إلى تداخل الواقع والخيال، وتجاوز السّببية وتوظيف الامتساخ والتّحويل والتّشويه ولعبة المرئي واللامرئي، دون أن ننسى حيرة القارئ بين عالمين متناقضين: عالم الحقيقة الحسية وعالم التّصور والوهم والتّخييل. فالقصّة تحدّثنا عن أدهم وصراعه في تحقيق الذّات والوجود، وصراعه مع الآخر لتأكيد بقائه، وهذا واقع نعيشه، لكنّ القصةّ تأخذنا إلى عالم الخيال، فنرى صراع أدهم هو مع الثّعبان، وهو القدر الذي كُتب له، فكان أخًا له، فتقوم حبكة القصة على هذا الصّراع بينهما: “لابد من العودة. إما أنا أو هو فى القرية أو فى الحياة كلّها”، ويتأزّم الوضع ليصل إلى اللارجوع عن الإقدام ومواجهة الخصم: ” أنا مدفوع يا مولانا إلى حتفى أو حتفه، حيرتى أكبر منى، لكنى لا أستطيع أن أدع كل شئ وراء ظهرى ولا أعود، ليتنى أستطيع”.

وتقوى المعركة بين الطّرفين بحيث لا يمكن أن تصل إلى التّفاهم أو السّلام، ولا مجال لأن يضعف ففي ذلك نهاية له وربما يصل الأمر إلى نهاية القرية. وبين هذا الواقع وعالم الخيال، يراود القارئ هاجس البحث عن التّرميز في هذه القصّة،  خصوصًا لما يتمتع به التّرميز فهو أكثر امتلاءً وأبلغ تأثيرًا من الحقيقة الواقعة.

ولاكتناه حقيقة هذه الرّموز علينا أن نعود إلى العتبة النّصيّة التي بدأ بها الكاتب قصّته، وربما مجموعته القصصيّة، هذه العتبة التي أسندها إلى كتاب تاريخ خورشيد غير الرّسمي، وخورشيد هو مكان مميّز لأنّ فيه نلمح التحّول عند أدم وحواء وانتقالهما من حياة السّماء إلى الحياة الأرضيّة، وبدء مسيرة الإنسان على الأرض ليعمّرها ويبدأ بالبحث عن حقيقته وعن وجوده، ويعيش الصّراع الإنسانيّ.

وقد نرى في هذه العتبة النّصيّة ما يدلّ على  التّناص الإشاري بالعودة إلى  الثّقافة الدّينيّة، فقد استلهم الشّاعر مضمون حكاية أدم وحواء، وهنا لم يعتمد الكاتب نقل أي مبنى من النّصّ الغائب إنّما قدّم لنا إشارة موحية إلى حكاية أدم وحواء، ولعل إعمال الفكر عند المتلقي في حكاية “ثعبان” ترتبط بهذا الصّراع الذي حدث بين “أدهم” وبين الثّعبان، الذي هو أخوه من أمّه، ولعلّ في ذلك إحالة وإشارة إلى الصّرع الذي حدث بين قابيل وهابيل “يفتح أدهم عينيه، هل ينتظرونه الآن؟ وهل ينتظره الأخ غير الشقيق ليقتله؟”، هو هذا الصّراع المعبر عن تصارع الخير والشّر بداخل الإنسان، وهو صراع لا يمكن الفصل فيه.

وونعيش مع قصّة ثعبان في حالة البحث عن سبب البلاء فنجد أنّ الفساد متعدّد الأوجه منها ذنوب الناس، وابتعادهم عن الله، مغالاتهم فى الأسعار، انتشار الكراهية بينهم. كلّ ذلك يتطلّب التّغيير والدعوة إلى الجديد، وربما هنا تؤدّي العبارة المتكرّرة في القصّة دورها كعلامة سيميائيّة إلى حاجتنا إلى التّغيير والتّجديد. فمن الملاحظ أنّ عبارة “”حسبك حسبك! حان الآن يا ولدى وقتك!” تكرّرت في النّص وهي خطاب الجدّ إلى حفيده، لكنّ ختام القصّة يأتي بعبارة “وقت أينا يا مولاي”، وفيها دلالة إلى استمرار هذا الصّراع الأزلي.

ومن ملامح هذا الصّراع هو مواجهة بعض العادات والتقاليد ربما، فلم يتعوّد أهل خورشيد على وقوف أحد على ظلّ الجدّ، وعندما داس الولد على الظّلّ، اختلفت الآراء فالبعض لم ير فيها تقصّدًا للإهانة، لكنّ الابن عرفان وجدها سابقة خطيرة، إذا تهاون فيها ستكون بداية انهيار مكانة العائلة فى القرية، وفي هذا دلالة على التّغير الذي لم يتجرأ عليه إلّا الثّعبان الذي خرج من رحم أمّه روحيّة ليكون واقفًا على ظلّ الجدّ، ما يدلّ على توجّه البعض إلى رفض القديم فهذا الظّل ما هو إلّا كل هذا الموروث الذي ساد لمدة طويلة.

إنّ قصّة الثّعبان تدخل في نظامها البنائيّ على الفانطاستيكية العجائبيّة وعلى التّناص والتّرميز، وقد أجاد الكاتب في استخدام الأسماء في القصّة، فكان الجدّ رمزًا للحكمة والمعرفة، وينشد الكاتب من هذا الجدّ الجالس على الدّكة أو السّرير منذ الأزل إلى دلالات متنوّعة، فهو ربما دلالة على الزّمن الطويل الذي يعبر عن زمنية الأرض. وفي اسم عرفان ربما إشارة إلى البعد العرفاني الصوفي، وحتّى في تسمية “روحيّة” كلّها دلالات على البعد الروحي الوجدانيّ، في مواجهة  الأبعاد الماديّة التي ترسم حقيقة الصّراع الإنسانيّ. إنّ هذه القصّة تتّصف بأبعاد رمزية عديدة فيها إشارات إلى قضايا الخلود والشّر والخطيئة والبحث عن الحقيقة. استطاع منير عتيبة أن يختزلها جميعها في قصة تتميّز بالتّكثيف ويترك كاتبها مساحة كبيرة للمتلقي ليغوض في مضامينها.

شكرا أستاذ منير قدّمت لنا وجبة دسمة، لكنّها لا تشعرنا بالتّخمة.
—–

ثعبان

قصة/منير عتيبة

 

“يقال إن المنطقة التى أصبحت فيما بعد قريتى، كانت أول مكان يشعر فيه آدم وحواء بتقلصات معوية أدت إلى أن يتغوطا،

فافترش غائطهما عدة أفدنة، كانت دهشتهما كبيرة من المادة الذهبية اللدنة ذات الرائحة النفاذة التى خرجت من جسديهما، وبعد أيام تحولت الدهشة إلى نفور، فغطيا مكان الخروج بمئزرين خاطاهما من أوراق شجرة تين ضخمة، ثم غادرا المكان، لكن الحية والشيطان اللذين كانا يتابعان خطواتهما بعد خروجهما من الجنة كانا سعيدين بالرائحة المقرفة، غير أنهما قررا مغادرة المكان

بعد فترة قصيرة، فقد اكتشفا بدورهما أنهما بدءا يختلفان، ثم يتعاركان، ففضلا أن يظلا صديقين فى مواجهة عدو مشترك، حوّل الشيطان نفسه إلى ثعبان ضخم، التحم مع الحية فى رقصة زواج عنيفة، تركت الحية بعض بيضها فى المكان، ثم غادرا مقتفيين آثار آدم وحواء. ومن وقتها؛ لم يعد أحد يذكر قريتى”

(من كتاب تاريخ خورشيد غير الرسمى)

شمس الصباح كأنها شمس الظهيرة. وناس خورشيد كأنهم ليسوا هم. أو كأنهم؛ لأول مرة فى حياتهم، هم. نسمات أوائل أكتوبر تحولت إلى كتل من الهواء الراكد مسلوبة الروح، وقفت فوقها الطيور التى لم تعد قادرة على الرفرفة بأجنحتها، فضمتها إليها منتظرة فى صمت الفراغ.

تمشى الحيوانات بلا صوت، فلا ثغاء ولا خوار ولا نهيق ولا نباح، كأن أحدا سرق أصواتها، فهى تمشى مطأطئة الرأس تبحث عنها بين قطرات الندى الملقاة جثثها فوق التراب.

يخرج الرجال والنساء والأطفال من بيوتهم فى هرولة كالوقوف، تبدو على الوجوه آثار عدم نوم الليالى الماضية، حيرة التفكير فيما لا يمكن التحكم فيه، محاولة سبر غور المشاعر المتصارعة، لا يعرفون إن كانوا يودعون قريتهم أم يستقبلونها، يعرفون فقط أن هذا هو اليوم الذى انتظروه لتسعة عشر عاما، وتمنوا أن يأتى بسرعة، وتمنوا ألا يأتى أبدا، فاليوم هو يوم القيامة، أو هو يوم الميلاد الجديد لقريتهم.

“حسبك حسبك! حان الآن يا ولدى وقتك!”

يستيقظ أدهم على صوت شيخه، وما زالت ابتسامة الشيخ التى تملأ وجهه المدور الوقور الأحمر عالقة بين رموشه، يبتسم لنفسه، إنها الليلة الوحيدة التى نامها كاملة وبهذا العمق منذ عرف ما وُجِدَ من أجله، حمل السر فانتفت الراحة، واليوم يوم الحصاد أو الموت.

كان يرى، لا يخاف، لكنه أيضا لا يفهم، يجرى إلى جده، يصف له ما رأى، ينظر الجد إلى مياه ترعة المحمودية الرقراقة كأنه يقرأ فيها شيئا ما من الماضى أو المستقبل، يهز رأسه، يبتسم، يمسح على شعر الحفيد ابن السنوات الخمس، يشعر الطفل بأصابع الجد فوق شعره ثقيلة بالحنان والخوف.

كان الجد يجلس هكذا منذ الأزل على دكة خشبية عريضة، بجوار مدخل القصر الكبير، يحمل فوق كتفيه أسرار مائة وعشرين عاما، نجاحاتها وهزائمها، خيرها وشرها، انطفأت فى جسده جميعا القوة، إلا عيناه؛ ما زال يشع منهما بريق الجبروت القديم، تعنى به ابنته الوحيدة “روحية”، تطعمه قطرات من لبن الجمال، تحممه بنفسها، تبدل له ملابسه، تحمله من سريره إلى جلسته على الدكة فى الصباح، ومن جلسته إلى سريره فى المساء، يتحدث ببطء وصعوبة، الكلمات من بين شفتيه العتيقتين تخرج مبتورة متناثرة الحروف. لكن أدهم كان الوحيد الذى يفهمه بسرعة، وكان الوحيد الذى يحب الجد الصموت البوح له.

“حسبك حسبك! حان الآن يا ولدى وقتك!”

ينزلق أدهم من على سريره، يفتح باب الحجرة المؤدى إلى المحمودية، يخلع ملابسه، يلقى بنفسه فى الماء، يسبح على ظهره مغمض العينين، تجذبه أمواج صاخبة فى دوامات إلى داخله، ظل الجد الذى يصبح بعرض الشارع ما بين القصر والترعة عند انتصاف النهار يمنع الناس من المرور بأمر العمدة، فمن يجرؤ أن يدوس بدابته أو بغير دابته على ظل مؤسس العائلة الكبير؟ يهوى أدهم الصغير تأمل ظل الجد وهو يكبر ويكبر حتى يغلق الشارع، ثم وهو يصغر ويصغر حتى يصبح مجرد خط صغير تحت فخذ الجد، ويدوخه السؤال عن القدرة العجيبة التى يمتلكها الجد ليفعل ذلك. يرسم بعصا صغيرة خطوطا على الأرض حول الظل، يقفز فوقه، أحيانا يدوسه، ثم يقف كمذنب عظيم، ينظر إلى الجد فى شقاوة، فيبتسم الجد تلك الابتسامة التى لا يقدمها إلا لأدهم، فلروحية ابتسامة أخرى، ولعرفان ابنه الأكبر ووريثه ابتسامة ثالثة، وليس لديه إلا تلك الابتسامات الثلاث، فلم تعرف شفتاه كيف تبتسمان إلا بعد أن تجاوز المائة بكثير.

الولد الذى داس على ظل الجد لم يكن يقصد أن يهينه، لكن عرفان وجدها سابقة خطيرة، إذا تهاون فيها ستكون بداية انهيار مكانة العائلة فى القرية. أمر الخفراء بربط الولد سيد سعيدة إلى شجرة، وجلده عشرين جلدة، وحبسه فى بيته شهرا. بكى الولد الذى داس على ظل الجد وهو يجرى مستدعيا حلاق القرية لإنقاذ أمه من الموت. لكنها ماتت وهو يجلد، ودفنت وهو محبوس فى عشته.

لم يضايقه الحبس، فهو لا يفارق العشة تقريبا، يصلح أحذية وقباقيب أهالى القرية، لكن ألم الإهانة يحرق جوفه، ويعذبه ألم أكبر؛ فقد الأم ودفنها دون وجوده، وهى التى لم ينسب طوال حياته إلا إليها.

“حسبك حسبك! حان الآن يا ولدى وقتك!”

يفتح أدهم عينيه، هل ينتظرونه الآن؟ وهل ينتظره الأخ غير الشقيق ليقتله؟

يغطس كله تحت الماء، لا يعرف كيف استطاع سيد سعيدة الوصول إلى روحية، وكيف أحبته لدرجة أن تهرب معه ويبيتان ليلة كاملة فى الأحراش التى تفصل القرية عن الصحراء، ويضطران لشرب المياه من البئر الوحيد الموجود بالأحراش، بيت الثعابين العتيق. يقبض رجال عرفان عليهما، يحبس سيد سعيدة فى عشته إلى الأبد، بعد أن تقطع يده اليمنى وقدمه اليسرى، وتحبس روحية فى حجرتها أسبوعين حتى يتم زفافها إلى ابن خالتها. بعد أشهر قليلة يتضخم بطن روحية وبطن سيد سعيدة بنفس السرعة، بنفس القدر، يفتح حلاق القرية بطن سيد سعيدة، يفاجأ بأفعى بيضاء اللون مخططة بدوائر غامقة، كبيرة الفم، مكشرة عن أنيابها، تصدر صوتا يشبه صوت بخار محبوس فى إبريق منذ دهور، تقفز مغادرة العشة، يذهل عن إغلاق البطن، فيموت سيد سعيدة، فى الوقت الذى تنجو فيه روحية من الموت بعد أن يقفز ثعبان ضخم من بطنها، ويغادر القصر الكبير بسرعة كأنه على موعد، وكأن له أجنحة، ولأول وآخر مرة يرى أهل القرية ثعبانا وحية كلا منهما بطول مترين يتعانقان فوق ظل الجد ثم يغادران فى ثقة باتجاه الأحراش.

“حسبك حسبك! حان الآن يا ولدى وقتك!”

يغادر أدهم الماء، يجفف نفسه، ينظر إلى نفسه فى المرآة عاريا، لم يعتد ارتداء الملابس إلا بعد أن تجاوز السادسة، وبعدها لم يعد يرى، كان يقف أمام البيوت عاريا، ينظر إلى عتباتها، يرى ما لا يراه غيره، يجرى إلى الجد، يصف له كل أشكال الثعابين التى رآها، ثعابين ضخمة ذات شعر أسود، أو ريش ملون، وأخرى ذات أجنحة، وأفاعى ذات ألسنة سوداء، وحيات ذات ألسنة حمراء، ثعابين صامتة، وأخرى ذات أصوات صارخة كأن أحدا يجلدها، ثعابين تأكل البطيخ فى غير مواسمه، وأخرى تشرب اللبن من مكان ما غير مرئى، ثعابين صغيرة جدا، وأخرى لا حد لضخامتها، بعضها تبدو عمياء، وبعضها تبرق عيونها بخبث أو بغباء. ينصت الجد طويلا، يحرك شفتيه بصعوبة:

–       لكل بيت حارس من الثعابين.

–       ولماذا لا يوجد أمام قصرنا أى ثعبان؟ نحن فقط ليس لدينا حارس؟

–       نحن غير كل الناس.

عندما قرر أن يتخلص منها جميعا لم يستشر الجد، ضم كفيه فى نصف دائرة، ظل ينفخ فيهما لأكثر من نصف ساعة، حتى صنع جوالا ضخما من الهواء، ودار على بيوت القرية، يمسك بحراسها، ويلقى بهم فى جوال الهواء، ثم أغلق الجوال، وحفر على شاطئ ترعة المحمودية، ودفنه، وذهب يحكى للجد. هز الجد رأسه، تكرمشت ملامحه المتغضنة، بدا فى عينيه شئ يشبه الخوف، ثم هز كتفيه استهانة، وهو ينظر لحفيده بفخر وإشفاق.

“حسبك حسبك! حان الآن يا ولدى وقتك!”

بدأ يخرج ملابسه من الدولاب، الملابس التى لم يجربها بعد، قال له شيخه إن عليه أن يرتديها مرة واحدة فقط، يخوض بها معركته، ثم يحرقها. عندما بدأ الثعبان الضخم يترصد أهالى القرية وحيواناتها فى المسافة الفاصلة بين القرية والأحراش، انتشرت الأقاويل بسرعة عن سبب البلاء، ذنوب الناس، ابتعادهم عن الله، مغالاتهم فى الأسعار، انتشار الكراهية بينهم.. لكن روحية، روحية فقط هى التى عرفت أنه جاء لينتقم، بعدها عرف الجد، وعرفان. عرفان لم يصدق، سخر من أخته التى أذلته مرة ولن يقبل خرافاتها أبدا، لكن الجد صدق، بل وأخبر حفيده:

–       إنه أخوك، وهو قدرك.

لم يفهم بسرعة، لكنه مع الأيام فهم، الثعبان الضخم يتضخم أكثر، يأكل كل ما يقابله، لكنه لا يغادر منطقته، فهل سيظل فيها إلى الأبد؟ أم سيأتى الوقت الذى ينزل فيه إلى القرية؟.

قرر أدهم أن يبحث عن الإجابة بنفسه، من فوق جبل منسى كان يراقبه بالساعات. كيف يمكن أن يكون أخا لهذا الكائن المتوحش، إن نظرة منه تجمد من يتعرض لها، وهو نحس، غادر، لكن التكحل بذيله يقوى النظر، هل كل هذا حقيقى؟ أم خوف أهل القرية يتجسد فى كلمات وصور لا معنى لها؟ خرج أدهم حاملا صرة ملابسه، بعض الطعام، وبعض النقود، فى رحلة قدر لها أن تستمر لعدة أشهر، فاستنفدت من عمره خمس سنوات، كان فى الرابعة عشرة من عمره، وها هو يعود وفى نفسه السؤال الحائر يتردد؛ أكان يجب أن أعود حقا؟

“حسبك حسبك! حان الآن يا ولدى وقتك!”

ارتدى أدهم سروالا قطنيا فضفاضا، وفانلة قطنية نصف كم، ثم جلبابا أخضر اللون مفتوحا من الجانبين بطول ساقيه، وعمامة خضراء متوسطة الحجم، ذات ذؤابة زرقاء، وتمنطق بحزام عريض به جراب طويل، تأمل السيف المصقول الذى قدمه له شيخه، أحس بوهجه يوقظ شيئا فى روحه، شيئا كالانتحار والرغبة العارمة فى الحياة معا، غرق فى خطوط لغة قديمة غير مفهومة، متداخلة معا بشكل سحرى، محفورة على النصل اللامع، قال له الشيخ إنه الوريث الذى انتظره كثيرا، وإن الرفاعى الكبير ينظر الآن مسرورا لأن السيف وصل إليه. خمس سنوات كان خلالها التلميذ النجيب للشيخ، كان بعض التلاميذ يقولون إنه أعرف أهل الأرض بالثعابين والحيات والأفاعى، ويقول آخرون بل هو نفسه ثعبان، كان يراقبها وهى تغير ثوبها فى العام عدة مرات قد تصل إلى خمسة، تنسلخ من خلايا جلدها الدهنية الميتة بعد أن تكون الثوب الجديد، تخلع ثوبها بداية من الرأس، تزحف خارجة منه، تحك نفسها بأجسام خشنة لتزيل كل أثر للثوب القديم، تابعها وهى تقاتل بشراسة من أجل الحياة، تعض، تحقن السم، تصدر روائح كريهة، تتبرز وتتبول على عدوها، تقذفه بالسم، تصدر أصواتا ترديه، فحيحا وحشرجة وقرقعة جهنمية، تبصق الدم، تتظاهر بالموت ثم تنقض. عرف كيف يتغلب على سمها القوى بخلائط مختلفة من الثوم والحبة السوداء والعسل والكبريت والصنوبر والحنظل والفجل والكراث والبصل والشعر والخل وحب الرشاد، وقبلها برقية يرددها 7 مرات “بسم الله أرقيك، من كل شئ يؤذيك، ومن شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك، بسم الله أرقيك”، احتفظ بعنكبوت وقط وقنفذ وبومة وابن عرس، فكان تام التحصين.

“حسبك حسبك! حان الآن يا ولدى وقتك!”

وضع السيف فى الجراب الطويل، تنهد، تجسد له شيخه يعيد عليه سؤاله القديم:

–       أأنت واثق؟

–       لا

–       فلا تعد إذن

–       لابد من العودة. إما أنا أو هو فى القرية أو فى الحياة كلها

–       من أدراك؟

–       أنا مدفوع يا مولانا إلى حتفى أو حتفه، حيرتى أكبر منى، لكنى لا أستطيع أن أدع كل شئ وراء ظهرى ولا أعود، ليتنى أستطيع.

تنهد بعمق، ليتنى أستطيع، ليتنى أستطيع. وخرج.

كانت الشوارع خالية. القرية كلها تنتظره هناك، هل أحضروا البقرة؟

منذ عاد وهو يراقبه عن قرب، ويعلم أن الآخر يراقبه هو أيضا، أصبحت المعركة بينهما سافرة، لكن ألا سبيل لتفاهم أو سلام؟ نفض السؤال عن نفسه حتى لا يتخاذل، لو ضعف داخله لعلم الآخر، ولكانت نهايته وربما نهاية القرية كلها.

كان يسير بطريقة جانبية، أسود اللون، براق الجلد، يفرد منطقة الرقبة من وقت لآخر، يبدو ملمسه من بعيد واضح الخشونة، فى عينيه لمعان وجحوظ غير معتادين، خطير، خطير جدا، همس أدهم لنفسه، وواصل طريقه.

وجدهم هناك، أهالى القرية، والبقرة، وشوال الجير الحى الذى جلبه بنفسه، وقرأ عليه تعاويذ قديمة، وأخرى من ابتكاره. تأكد أن البقرة لا شيه فيها، جعل بعض الرجال يطرحونها أرضا، استقبل القبلة، سمى وكبر، وذبحها بسيفه، فتدفق من عنقها الدم قانيا. سلخها، ناول الجلد لأحدهم وطلب منه أن يحرقه، وهو يعرف أن الرائحة ستجلب الآخر سريعا. وأخذ يدهن لحم البقرة بالجير الحى، والرجال يتأكدون أن كل الآبار مغلقة، والمصارف والترع تم ردمها منذ يومين، عدا مصرف واحد صغير تركوا فيه الماء.

وضع البقرة المغموسة فى الجير الحى على حافة المصرف، ووقف ينتظر.

بعد أقل من ساعة كان يقبل، يزحف ببطء، وثقة، وتحد لا حدود له. نظر إليهم جميعا باستهانة، اقترب من البقرة، تشممها، ابتعد برأسه، عاد يتشممها، ثم ابتعد برأسه، تردد قليلا، ثم قرر أن يأكلها، وضع رأسها فى فمه، أخذ يسحبها قطعة قطعة لتختفى بداخله، وجلده يتسع ليستوعب حجمها الكبير، والجميع يراقبونه بذهول وخوف، حتى اختفت تماما، فشعر بالنار تكوى أحشاءه، فصرخ صرخة أفاق لها الجميع، رفع أدهم سيفه إلى أعلى، مستعدا، وعيناه على الآخر تراقبان كل حركاته، حتى وضع رأسه فى ماء المصرف ليطفئ النار بداخله، قفز أدهم فى الهواء قفزة من له عشرة أجنحة، فأصبح فوقه تماما، وفى أقل من لحظة، ضرب رأسه فطارت، نظر إليها، كان فى عينيه الجاحظتين حياة صاخبة لم تزل، سخرية وغضب وإشفاق، نظرة كأنها شعاع سحرى اخترقت عيني أدهم، فاستقر شئ بداخله زلزله، وانقذفت من فمه نبتة غريبة تشبه زهرة لوتس صغيرة زرقاء، سقطت فى يد أدهم، أخذ يمصها بلا تفكير، كانت مرة، لكنها لذيذة، وجد نفسه كالمجنون يسلخ الجلد ويلقيه بعيدا، ثم يمزق الجسم الممدد على الأرض قطعا صغيرة، وهو يضحك ويبكى.

أفاق أهل القرية، بدءوا يتحركون ببطء فى اتجاه بيوتهم، شئ ثقيل كالرصاص يكتم أنفاسهم، يشعرون بخزى ما، أرادوا نسيان ما حدث كمن يخفى جريمة لا يعرف دواعيها. تفككت كتل الهواء، فردت الطيور أجنحتها، حاولت الطيران، فسقطت على الأرض، ولم تعثر الحيوانات على أصواتها أبدا.

تابعهم حتى اختفوا عن عينيه، أمسك رأس الآخر، حدق فى عينيه الجاحظتين الميتتين الآن، كانتا كمرآتين مصقولتين، لم يعرف نفسه فيهما، حرق ملابسه، ارتدى جلد الآخر، أمسك السيف بيده، سار فى اتجاه الصحراء خارج القرية، أتاه صوت الشيخ:

“حسبك حسبك! حان الآن يا ولدى وقتك!”

صرخ فى البرية: وقت أينا يا مولاى؟

Visited 10 times, 1 visit(s) today

التعليقات متوقفه