قارئة القطار للكاتب إبراهيم فرغلي

453

د. أمل درويش

في رحلة الصراع الأزلي بين غريزة الموت والمشاعر الإيروسية (غرائز الحب والحياة) التي تندفع نحو الحياة وتعزز الأنا منطلقة من اللاشعور كانت رحلتنا إلى أعماق النفس البشرية.. هذه الرحلة التي انطلقت في داخل القطار (النفس البشرية) ومن خلال كتاب الأحلام أو كتاب الأوهام كما كان يطلق عليه الكاتب حسب انسكاب شلال الأحداث وهدير الذكريات الغامضة في نفس البطل..

هذا البطلُ مجهولُ الهوية ومعدومُ الذكريات الذي يبحث عن تاريخٍ ينتسب إليه وروحٍ يتعلق بها واسمٍ يحمله ليمضي في هذه الرحلة المجهولة..

ومع محاولاته المستميتة لإيقاف القطار أو إيجاد إجاباتٍ منطقية شافية لأوجاع الجهل الساكن روحَه وأوصاله، عبثًا يفتح غرفَ اللاوعي بداخله لعله يجد بداخلها ما يهديه، حتى يعود إلى البصيرة (زرقاء) لتجيبه عن كل أسئلته بعدما يهدأ ويستسلم..

إن الإجابة دائمًا بداخلنا ولكننا لا ندرك ذلك لأننا نبحث في الخارج، ولكن حين نستجيب لحواسنا المعطلة ونبدأ في الولوج إلى ذلك العالم الخفي بداخل النفس نستطيع الوصول إلى كل الأجوبة.

كانت رحلةً مفعمةً بالتفاصيل الثرية والرموز والإيحاءات التي من شأنها كشف المجهول بداخلنا.. اختار الكاتب أسماءَ الشخصيات بدقة متناهية، فها هي زرقاء التي ترمز للبصيرة والنفس الشفافة الهادئة التي تهيمن على كل ما حولها دون ضجة، وتوجد في إحدى مراحل اللا وعي، على نقيض ذكرى التي تتأرجح ما بين الاندفاع والغموض، ما بين الحب والكره، ما بين الفرح والحزن..

وإلهام التي لم يسمح لها البطل بالتأثير عليه لاندفاعه وعجزه في هذه المرحلة عن السيطرة على انفعالاته، وعدم جهوزيته لتلقي الإلهام..

فتنة وهي الابنة التي التقت بالبطل في نهاية الرحلة وتدعوه للعودة للحياة مرة أخرى بالنزول من القطار.. هذه الفتنة التي تلازم الإنسان طوال حياته وتلهيه عن الاستعداد ليوم الرحيل..

فاطمة حالة الشغف والثورة على المجتمع وموروثه العتيق، زينب الهدوء والرقة.. في تناقض يبرز تباين حالات النفس وأحوال البشر.

أما اختيار اسم البطل ففيه الكثير من الدلالات، حيث “محمود” الذي يكتنز الكثير من مشاعر الفخر و”الأنا” فهو المُعرف لغويًا بالذي قام بعمل يُحمد عليه، وأما الشق الثاني للاسم فكان “الوهم” وهو نتاج جولات النفس في عالم الخيال واللاوعي ويرتبط ارتباطا وثيقا ب “الهو” والكبت الموجود بداخل الأنا.. ليعبر ذلك عن حالة البطل وتأرجحه بين ما يظهره وما يكبته بداخله.

قفزات السرد كانت في موضعها لتبدد أي شعور بالرتابة في الأحداث، وتُجدد شغف القارئ لاستكمال هذه الرحلة ومعرفة تاريخ البطل وحكايته عن طريق أساليب الاسترجاع والاستباق..

ولا نغفل حكايات الجدة التي تمثل الموروث الشعبي والثقافي للمجتمع الريفي المعزول عن العالم.

كان ربط الخط الدرامي بالجانب التاريخي والحديث عن ثورة عرابي استخدامًا ذكيًا لنقل حالة المجتمع في هذه الفترة واختلاط الجاليات الأجنبية بأبناء الشعب البسطاء واستعلائهم عليهم، فلم يكن الاستعمار عسكريًا فقط بل امتد إلى الجانب الشعبي (حين ذكر الكاتب أن أجر العامل الرومي كان يفوق أجر العامل المصري)

التناص: حاول الكاتب من خلال بعض الجمل والتعبيرات الإيحاء بأن هذه الرحلة تشبه بشكل أو بآخر حياة البرزخ التي تهيم فيها نفس الإنسان بعد الموت، فتسترجع كل الأحداث التي مرت بها خلال الحياة وتنتظر مصيرها.. فيتوقف عمل الإنسان فيها ويتجرد من كل مظاهر الحياة المادية وتتجرد نفسه من كل أثواب الكذب لتظهر على حقيقتها. حين قال الكاتب (نموت هناك لكي نحيا هنا)

إن قارئة القطار ما هي سوى بصيرة الإنسان التي تستطيع قراءة كل ما يدور بداخل نفس الإنسان وما حوله إذا استطاع فهمها والتواصل معها..

وهذا ما حدث في نهاية الرواية حيث استلقى البطل طواعية متخذًا موضعها ليكمل القراءة بعد رحيلها.

 

Visited 10 times, 1 visit(s) today

التعليقات متوقفه