تحتل الصومال موقعًا محوريًا في الاستراتيجية التركية في القارة الأفريقية، نظرًا لموقعها الجغرافي الاستراتيجي في القرن الأفريقي، المطل على طرق التجارة الحيوية والغنية بالموارد البحرية.
على مدار السنوات الماضية، باتت مقديشو نقطة تركيز رئيسية لأنقرة، حيث تحولت العلاقات بين البلدين من مجرد تعاون إنساني إلى شراكة استراتيجية متشعبة.
بدأت هذه العلاقة الحديثة بين تركيا والصومال بلحظة رمزية في عام 2011، عندما قام رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي آنذاك، بزيارة مقديشو في ظل أزمة مجاعة كارثية.
كان أردوغان أول زعيم غير أفريقي يزور البلاد بعد عقود من الصراع، الأمر الذي جذب انتباه المجتمع الدولي وحفّز تدفق المساعدات الإنسانية.
ورغم تقديم تلك الزيارة آنذاك بوصفها بادرة إنسانية بحتة، إلا أنها أرست الأسس لعلاقة أكثر تعقيدًا، جمعت بين المساعدات والاستثمار والتعاون العسكري والدبلوماسي، لتصبح تركيا خلال عقد من الزمن لاعبًا رئيسيًا في المشهد الصومالي.
النفوذ الاقتصادي: من الشراكة إلى السيطرة
عقب زيارة 2011، قدمت تركيا نفسها كحليف رئيسي لإعادة إعمار الصومال، حيث لعبت منظمات تركية، مثل وكالة التعاون والتنسيق التركية (TİKA) والمؤسسات الإنسانية الأخرى، دورًا فاعلًا في تنفيذ مشاريع تنموية كبرى.
شملت هذه المشاريع إعادة تأهيل مطار “عدن آدي” الدولي في مقديشو، وتحديث ميناء العاصمة، إلى جانب بناء مستشفيات ومرافق صحية، كان أبرزها مستشفى رجب طيب أردوغان.
في البداية، عززت هذه المشاريع صورة تركيا كحليف موثوق يسعى إلى مساعدة الصومال على النهوض من أزماته.
لكن بمرور الوقت، بدأ الوجه الحقيقي لهذه المساعدات بالظهور، إذ ضمنت أنقرة لنفسها نفوذًا اقتصاديًا كبيرًا من خلال استحواذ الشركات التركية على عقود تشغيل البنية التحتية الرئيسية دون منافسة تُذكر.
فازت مجموعة “البيرق” التركية بحق إدارة ميناء مقديشو بموجب اتفاقية طويلة الأمد، فيما تولت شركة “فافوري” التركية تشغيل المطار الدولي.
لم تكن هذه الامتيازات مجرد استثمارات تجارية، بل مثّلت أدوات للنفوذ السياسي والاقتصادي، حيث باتت أنقرة تسيطر فعليًا على أهم بوابات الصومال إلى العالم. كما أشارت تقارير دولية إلى وجود شبهات حول ممارسات مالية غير شفافة تتعلق بإدارة هذه العقود، مثل مزاعم حول دفع رشاوى للمسؤولين المحليين واستخدام الاستثمارات التركية كوسيلة لغسيل الأموال.
إلى جانب السيطرة الاقتصادية، استخدمت تركيا قطاع التعليم كأداة لبسط نفوذها على المدى الطويل. فقد قدمت الحكومة التركية منحًا دراسية للطلاب الصوماليين للدراسة في جامعاتها، وأسست مدارس وبرامج تعليمية داخل الصومال، لا سيما بعد عام 2016، حينما وسّعت نفوذها التعليمي عقب قطع العلاقات مع حركة فتح الله غولن. ومع مرور الوقت، نشأ جيل جديد من الصوماليين المتعلمين في تركيا، ما يعني أن النخب المستقبلية من أطباء ومهندسين ومسؤولين ورجال أعمال، ستكون على صلة وثيقة بأنقرة، مما يعزز ارتباط الصومال بالمصالح التركية.
الوجود العسكري: من الدعم إلى الهيمنة الأمنية
لم يقتصر التغلغل التركي على الاقتصاد والتعليم، بل امتد ليشمل المجال العسكري والأمني. ففي عام 2017، افتتحت أنقرة أكبر قاعدة عسكرية لها خارج حدودها في مقديشو، تحت اسم “معسكر تركسوم”، بتكلفة بلغت حوالي 50 مليون دولار، ممتدة على مساحة 400 هكتار بالقرب من الميناء والمطار. تعدّ هذه القاعدة مركزًا لتدريب القوات الصومالية، حيث تشير التقديرات إلى أن واحدًا من كل ثلاثة جنود صوماليين تلقى تدريبه على يد الجيش التركي.
يتجاوز الدور التركي في الصومال مجرد التدريب العسكري، إذ تمتد مساهماتها إلى تجهيز الوحدات الخاصة مثل قوات “غورغور” التابعة للجيش الصومالي، ووحدات الشرطة الخاصة “حرمكاد”. والأمر اللافت أن بعض حفلات أداء اليمين لهذه القوات تُجرى على وقع النشيد الوطني التركي، ما يعكس مدى التأثير العسكري والثقافي لأنقرة داخل المؤسسة الأمنية الصومالية.
تبرر تركيا هذا التواجد العسكري المكثف بمساعدة الصومال في مواجهة الإرهاب، لا سيما حركة الشباب المتطرفة المرتبطة بتنظيم القاعدة. وقد تعزز هذا التعاون العسكري عبر إمداد الصومال بأسلحة متطورة، أبرزها الطائرات المسيّرة التركية “بيرقدار TB2″، التي أثبتت فاعليتها في معارك ليبيا وأذربيجان، وأصبحت أداة حاسمة في استهداف معاقل حركة الشباب داخل الأراضي الصومالية منذ عام 2022.
علاوة على ذلك، يُعدّ الصومال ساحة اختبار حيوية للصناعات الدفاعية التركية، إذ يمنح أنقرة فرصة لعرض قدراتها العسكرية والترويج لمعداتها القتالية عالميًا، ما يسهم في تعزيز صادراتها الدفاعية. كما يمنحها الوجود العسكري في مقديشو موقعًا استراتيجيًا على أحد أهم الممرات البحرية في العالم، مما يعزز نفوذها الجيوسياسي في منطقة القرن الأفريقي.
الطموح التركي في قطاع الطاقة: السيطرة على الموارد الصومالية
رغم أن التدخل التركي في الصومال بدأ بدوافع إنسانية وسياسية، إلا أن المصالح الاقتصادية، خاصة في قطاع الطاقة، باتت واضحة بشكل متزايد. إذ تشير الدراسات إلى أن السواحل الصومالية تحوي احتياطيات ضخمة من النفط والغاز الطبيعي، تُقدر بحوالي 30 مليار برميل من النفط المكافئ، ما يجعلها هدفًا جذابًا للقوى الإقليمية والدولية.
لم تغفل تركيا هذه الفرصة، حيث وقعت في عام 2016 مذكرة تفاهم للتعاون في مجال الطاقة والتعدين مع الحكومة الصومالية، لكنها تأخرت في التنفيذ بسبب التطورات السياسية في تركيا، مثل محاولة الانقلاب الفاشلة. ومع ذلك، أُعيد إحياء هذا التعاون في عام 2020، حينما صدّقت أنقرة على الاتفاق، بالتزامن مع إصدار الصومال قانونًا جديدًا للنفط وإنشاء “هيئة البترول الصومالية” (SPA)، مما مهد الطريق أمام شركة النفط التركية “TPAO” للمشاركة في عمليات الاستكشاف البحري.
يرى المراقبون أن دخول تركيا إلى قطاع النفط الصومالي يمنحها نفوذًا مزدوجًا، يتمثل في تأمين موارد طاقة جديدة وتعزيز حضورها الاستراتيجي في المنطقة. إلا أن هذه التحركات لم تمر دون إثارة مخاوف اللاعبين الإقليميين، لا سيما أن بعض مناطق الاستكشاف تتداخل مع الحدود البحرية المتنازع عليها بين الصومال وكينيا، وهو نزاع وصل إلى محكمة العدل الدولية.
ولضمان أمن أنشطتها المستقبلية، تبذل تركيا جهودًا في إعادة بناء القدرات البحرية الصومالية، حيث تقدم تدريبات لقوات خفر السواحل وتساعد في تطوير قدراتهم الدفاعية. كما لا يُستبعد أن تقدم أنقرة معدات بحرية متقدمة في المستقبل، ما يعزز وجودها البحري في المنطقة ويضمن حماية استثماراتها الاستراتيجية.
استراتيجية تركيا: مزيج من البراغماتية والرؤية المستقبلية
في نهاية المطاف، تكشف استراتيجية تركيا القوية في الصومال وأفريقيا عن قدرتها على الجمع بين البراغماتية والرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى. إذ ينظر الرئيس رجب طيب أردوغان إلى القارة الأفريقية باعتبارها ساحة لزرع النفوذ اليوم، بهدف جني المكاسب الجيوسياسية والاقتصادية غدًا.
وقد أتقنت أنقرة فن التواصل مع أفريقيا، عبر الجمع بين الاحترام الرسمي، والاستثمارات الملموسة، والحضور المستمر، بينما لا تزال الجهات الفاعلة الأخرى متعثرة في وعود غير منفذة.
وتكشف التجربة الصومالية أن من يريد أن يكون مؤثرًا في أفريقيا، عليه أن يكون حاضرًا على الأرض. وتركيا موجودة بالفعل، وتبدو عازمة على البقاء. ويبقى على القوى الأخرى أن تقرر ما إذا كانت ستعارضها، أو تتعاون معها، أو تتجاهلها—مع إدراك أن اللعبة الأفريقية مفتوحة، وأن تركيا تلعب فيها الآن دورًا قياديًا.
اقرأ أيضا:
تركيا تحذر: استبعادنا من الدفاع الأوروبي المشترك “خطأ استراتيجي”